عشـــــــــاء أخير !
عشـــــــــاء أخير ! … (( غسيل الأسئلة … أصعب مكن غسيل الأمواج ))
في زيارة إلى قريتي ( عين البوم ــــ البطل المكاني لروايتي ) … دخلت بيتي الذي يصمت في بريَّة موحشة بين أربعة جبال، ووديان، وأنا أعرف أن الكهرباء مقطوعة، وكنت جائعاً (كثعلب) ووحيداً (كبقايا جيلٍ قديم). وكنت في حالة من سيشعل قنديل ذاكرة المكان، بإنعاش تفاصيل ذاكرة الإنسان .
لم يكن لدي، مما يؤكل، سوى رأس بصل، ورأس بطاطا وربطة خبز وقرن فلفل حار، صغير وذابل .
أمام النافذة، بدأت أحضر عشائي .
دمعت عيناي من فرط النزق السائل في رأس البصل … وتذكرت مصائبي :
صحيح ليس في ما حولي جثث لسوريين حديثي الموت … ولكن كانت جثة الحياة هي الممددة أمامي، ودمها على قميصي، وشهقتها الأخيرة تملأ سلة الموسيقى على رفوف مكتبتي .
وأيضاً أمس تركتني الفتاة التي أحبها بكل ما تبقى من فوران غبار النجوم المشعَّة في دم الكهولة. وأدركت، في غيابها، الفارق الفادح بين بئرٍ وجدول، بين ابتسامةٍ قديمة، وفراشة على وجه. بين ذاهب وقادم. هي ذاهبة إلى نصِّها الحديث الطازج وأنا أمضي، على مهل، إلى قبر أحفره كل يوم، في تلذّذ من يعدّ سرير زفاف أول.
ثمَّة مصيبة أخرى :
كان لدي جهاز أهداني إياه موزع أدرينالين ” الله … جهاز يرن عند الخطر، ولكنه منذ زمن الخيبات الأولى، والحروب الأولى … لم يعد يرن ّ، حتى لو وضع أحدهم مسدساً في رأسي، ولو أطلقت عليَّ الدنيا رذاذ أفعاها القاتلة !
هكذا ؟ لم أعد أكترث، لاحتمال سقوط قذيفة هاون عشوائيَّة، وأنا أمشي في شوارع دمشق، أو؟ لرصاص طائش، فيما أقف على الحاجز العسكري وأفتح ” باكاج ” سيارتي لجندي يريد التأكد من العبوات الناسفة في كرتونة كتب .
( وأحياناً، يطلب نسخة من كتابي ) .
عشـــــــــاء أخير
وهكذا … إذن :
لم أشعر بالخوف أبداً أمام نافذتي، في ليل القرية وصمتها المدوّي ….
قبل أن تنضج طبختي في المقلاة، (المقلاة التي، من وجهة نظرها، إن السمكة قبيحة، والبصل أكثر تفاهة، وأن الإنسان يقلي العالم كله من أجل بطن يكفيه رغيف وحزمة برسيم مرتجلة …..
فجأة ….
سمعت صوت خطوات في العتم الشديد، ودقّاً على النافذة …
كان هناك شبح … مسلَّح وملثم، وعيناه تبرقان في المسافة المرعبة بيننا.
ولأن جهاز ضخ الأدرينالين غير موجود في غددي الصمّاء … ابتسمت وقلت له :
ــــــ مرحباً تفضَّل بالدخول .
ربما، لأنه لم ير ابتسامة منذ سنتين ( بدء الحرب في سورية … ) أو منذ أول نطفة حليب من ثدي أم فلّاحة متجهّمة يضربها زوجها لينام معها …. فقد أخفض بندقيَّته، وظهرت لي عينان جائعتان .
قلت : تعال شاركني العشاء .
برم قبضته متسائلاً : كيف ؟
أشرت له أن يدور حول البيت باتجاه الباب . فاختفى، فيما أنا فتحت الباب، وبيدي شمعة .
دخل البيت، في حذر، أجلسته على كرسي إلى جواري في المطبخ المفتوح على الصالة، متعددة النوافذ .
فقلت له مازحاً :
أرجو ألا تكون جائعاً ( كثعلب ) ولا وحيداً ( كبندقيَّة ) فعشاؤنا الأخير فقير !
استغرب لغتي، فأدار عينيه إلى رفوف الكتب على الجدران، وعلى الطاولة .
تابعت : لدي فودكا …. شو رأيك ؟
فتحت البرّاد وسكبت كأسين. ناولته كأساً، وقلت له، وأنا أرى عينيه اللامعتين: اشرب دفعة واحدة .
وهكذا فعل، وأنا نزلت الفودكا لأول مرة، ليس إلى بطني، بل إلى القلب !
بعد قليل نهض وأخرج مصباحاً من جيبه، وراح يتفرج على كتابات على الجدران .
كان على الجدار القريب من المطبخ بعض الكتابات، أنقل منها:
” من المهم جداً أن يكون للمرء صديق، حتى وإن كان سيموت .
وأنا سعيد جداً لأنه كان لي صديق … ثعلب ! ”
*
” تستطيع ألّا تكون مجرماً …
ولكنك لا تستطيع تجنّب أن تكون متَّهماً . ”
*
” بحياءِ أحيا … كما لو كنت ضيفاً على غجري يتأهب للرحيل ”
*
” تبدأ القصيدة بما قاله الأب لابنه ذات يوم , وهو يمضي إلى الحرب :
ليتك , يا ربي , تلغي الحروب ”
*
” الحرب , كالحب ….
سهلٌ أن تبدأها . صعب أن تنهيها . مستحيلٌ أن تنساها ”
*
لم يعلّق بشيء، ولكنه نزع القناع عن وجهه. كان شاباً وسيماً، وعيناه زرقاوان، وله لحية شعثاء، وفم يضيء بأسنان ابتسامته .
شربنا كأسنا الثاني في صمت . ووصلنا إلى الكأس الرابع …
ولأنني أمزح مع الحياة أحياناً، بطريقة أؤمن بها من زمن بعيد … وهي :
اترك لنفسك أن تكون سخيفاً، وغير حكيم أبداً. فليس ضرورياً ” سقراط ” ( بالسنة مرة )، ولكن ” شارلي شابلن ” يكفيك شر البليّة ويزيد. كما أنه من العبث أن يتحدث أحد ما بلغة شكسبير، في حين تجري القصة أمامك، بين فلاحة ذات نهدٍ مبكّر، وشاب يسقي ماعزه عند الساقية، ويشتهي أن يكون تيساً !
الصمت … الصمت والكهرباء لم تأت. وقد شبعنا خبزاً مغمساً بالقليل من البصل.
قال لي: ممكن أنام هنا ؟
ـــــ طبعاً … لن تنام إلا هنا .
جهزت له الكنبة في الصالون، وأعطيته مخدة وبطانية. ترك سلاحه على الطاولة إلى جواره، وقلت له : تصبح على خير .
وذهبت للنوم .
خلال أقل من خمس دقائق كنت أسمع شخيرنا. ولكن بعد خمس دقائق أخرى … دخلت الميدان الحربي لكابوس طويل، وفي الصباح وجدت عقد أصابعي العشرة مدمّاة من ضرب الحيطان. وقد انتبهت مستيقظاً كنت أبكي وأمزق قميصي.
كان الشاب واقفاً إلى جوار السرير، وبيده صينيَّة القهوة … إنه فجر يوم آخر ابتسمنا كأب وابنه .
قلت له: ( يا صغيري أنا ابن سبعين كارثةً ( سنة )، وفي هذا الصباح الجميل، أعتذر إليك باسم جيلي كله ) وكدت أسترسل , فتذكَّرت نظرية السخافة !
فتابعت : ” لكنني سأقول لك شيئاً أخيراً : طوال حياتي الطويلة كان يؤرقني هذا السؤال : إذا كان لا بد أن تكون قاتلاً أو قتيلاً، ماذا تختار؟
وكنت أجيب: القتيل ! اذهب يا صديقي إلى نوافذ تشبه نافذتي، فليس هذا عشـــــــــاء أخير !
ابتسمت عيناه … ومضى
لكنه لم يضع في بندقيته مخزنها !