أعظم النساء في حياة دستويفسكي
أعظم النساء في حياة دستويفسكي..يعتبر أدب المذكرات أحد أهم الفنون والأشكال الأدبية الذي يدون فيه الكاتب مايمر به في حياته اليومية من احداث تتمحور حول نفسه أو مذكراته حول علاقته بأحدى الشخصيات التي تركت لها بصمة على مدار التاريخ مثل مذكرات زوجات الأدباء اللاتي وقفن وراء أزواجهن الكُتاب المبدعين، فالحب كثيراً ما يلعب دوراً كبيراً في إلهام الكاتب لإطلاق عبقريته المكبوتة، فصفحات التاريخ لم تخل من قصص نساء شاركن في صناعته، وعرفن ما يتطلبه الإبداع للكاتب من شروط خاصة مثل آنا غريغوريفنا زوجة كاتب روسيا الأعظم فيودور دستويفسكي.
حامل السلاح
يعتبر دستويفسكي أحد أشهر الكتاب في العالم ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية. لكن في مذكرات زوجته آنا غريغوريفنا الصادرة عن (دار المدى) سنة 2015 بترجمة (خيري الضامن) نتعرف على دستويفسكي الإنسان وكيف عاشت معه حياة صعبة مليئة بالمعاناة ورغم ذلك كانت غنية بالمشاعر النبيلة والعميقة ، حتى انه كان يناديها بحامل السلاح فكانت أقرب إلى سكرتيرة ومديرة أعمال.
تعرفت آنا غريغوريفنا على دستويفسكي عام 1866 عندما كانت طالبة في دورة الأختزال وأبلغها استاذها في الدورة أن الكاتب دستويفسكي يبحث عن شخص يجيد الاختزال ليملي عليه روايته الجديدة ” المقامر ” (وانا شخصياً كنت معجبه به للغاية وكنت ابكي عندما اقرأ روايته مذكرات من بيت الأموات) وفي اول لقاء بينهم حدثها عن عن حكم الإعدام الذي صدرَ بحقه مع جماعة بتروشيفسكي في عام 1847 بتهمة التآمر على النظام وهذا يدل على شدة تأثره بتلك التجربة القاسية التي قربته من الموت حتى وصف احداثها لاحقاً في رواية الأبله ، (اقشعر بدني من حديثه وادهشني بصراحته . فهذا الرجل الذي تبدوا عليه مظاهر الانطوائية القاتمة يتحدث عن تفاصيل حياته بصدق وإخلاص مع فتاة غريرة يراها لأول مرة).
تكتب آنا غريغوريفنا عن تواضع وبساطة دوستويفسكي معها (وكان يسره الرد عن كل تساؤلاتي عن الأدباء الروس. فهو مثلاً يعتبر نيكولاي نكراسوف صديق الطفولة ويقدر موهبته الشعرية كثيراً. كما يقدر أبولون مايكوف كشاعر موهوب وإنسان ذكي ومثال للطيبة . ويرى أن إيفان تورغينيف روائي من الدرجة الأولى، لكنه يأسف لأن هذا الأخير أمضى وقتاً طويلاً في الخارج ولم يعد يتفهم طبيعة روسيا كما ينبغي لكاتب كبير مثله).
كما تسهب في وصف دستويفسكي ( وهو والحق يقال ، جذاب للغاية ويسحر ) وتقدم الأخير الى خطبتها بعد حوالي شهرين من تعارفهم بطريقة مختلفة كما تقول هي في مذكراتها، أن فيودور شاركها في حبكة رواية جديدة تخيليه، كما لو انه كان يحتاج إلى نصحها في فهم نفسية الأنثى. في تلك الرواية، رسام كبير في السن يتقدم لخطبة فتاة صغيرة كان أسمها آنيا.
سألها فيودور عما إذا كان من الممكن لفتاة صغير في السن مختلفة في الشخصية أن تقع في حب رسام. اجابت آنا أن ذلك ممكن جداً. ومن ثم قال فيودور لآنا: “ضعي نفسكِ في مكانها للحظة. تخيلي أني أنا الرسام، أنا أعترف وأطلب منك ان تكوني زوجتي. ماذا سيكون جوابك؟” أجابت آنا: “سأجيب بأني أحبك وسأحبك للأبد”. وتم الزواج في 15 فبراير1867 ..
في هذه المذكرات نتعرف أكثر على حياة دستويفسكي الحقيقية الصعبة والشاقة والظروف الصعبة التي مرَ بها من إصابته بالصرع الى قصور الرئه الى جحود أقربائه. الذي جعلوه يرهن معطفه الوحيد الفرو الوحيد من أجل حاجتهم الماسة للنقود، وكذلك وفاة ابنته الأولى صوفيا بعد ثلاثة أشهر من ولادتها (ولشد ماعانيت من عسر الوضع ولشد ماتألم دستويفسكي وصلى وبكى خائفاً علي من الموت، وفيما بعد وصف مشهد الولادة في رواية “الشياطي ” كان دستويفسكي من ارق الآباء. لكن الحظ لم يحالفنا إذ مرضت الطفلة وتوفيت في شهر الثالث ولم يكن لحزننا حدود) .
لم تكن حياة آنا غريغوريفنا سهلة مع دستويفسكي فقد كانت شاقة مليئة بالمحن خصوصاً كثرة الديون التي ترتبت عليه فقد كان يكتب ويسلم مخطوطته في وقت محدد ليستطيع سداد ديونه إضافة إلى إدمانه لعب القمار في فترة من فترات حياته (في البداية استغربت من هذا الرجل الذي تحمل بمنتهى البسالة آلام السجن والإعدام الوشيك والنفي، الأشغال الشاقة ووفاة أخيه وزوجته لكنه عاجز عن التوقف والامتناع عن المجازفة بآخر فلس . وكنت اعتبر ذلك أمراً لايليق بمنزلته، ويصعب علي ان اعترف بنقطة الضعف المشينة هذه في طباعه) .
دستويفسكي والكُتاب
تستعرض آنا غريغوريفنا بعض من أراء دستويفسكي بأقرانه من الكُتاب والمؤلفين (في شتاء 1868 قرأ مجدداً رواية البؤساء لفتكور هيغو، وكان معجباً خصوصاً ببلزاك وجورج صاند” ترجم دستويفسكي رواية (اوجيلي غرانده) الى الروسية ، وكان لأدب بلزاك صدى في مؤلفاته ، فثمة تشابه بين أبطال ” الأب غوريو” و “الجريمة والعقاب” وكذلك بين ابطال “الحانة الحمراء” و “الأخوة كارامازوف” كما ترجم دستويفسكي عام 1844 قصة جورج صاند “الأخير من سلالة الديني”، وكان لنتاج هذه الكاتبة تأثير كبير في مطلع حياته الأدبية)، إما عن رواية آنا كارنينا فقد قال” إنها من عيون الأدب الهامة، وهي أفضل تزكية لنا أمام أوربا، بل هي تمكننا من ان نبز أوربا” وقال عن تولستوي” أنه فنان بلغ ذروة الأبداع وإن أمثاله هم معلمو المجتمع ومعلمونا ونحن مجرد تلاميذ لهم ”
وكما يقال (وراء كل رجل عظيم امرأة) كانت آنا غريغوريفنا وراء زوجها فقد باشرت جميع المسائل المالية، بما في ذلك تجارة النشر والمفاوضات، وسرعان ما حررت زوجها من ديونه. وتوفي دستويفسكي في مطلع عام 1881 وفي الأول من شباط في نفس السنة شيع جثمانه إلى مثواه الأخير في موكب عفوي مهيب لم تشهد بطرسبورغ مثله.