
لطالما شكّلت أوروبا مركز الثقل العالمي، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، منذ عصر النهضة وحتى أواخر القرن العشرين. ولكن اليوم، وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي، يبدو أن العصر الأوروبي يقترب من نهايته، وسط مؤشرات متزايدة على فقدان القارة العجوز لمكانتها القيادية.
تصاعدت هذه المخاوف في الأوساط الأوروبية بعد الموقف الأميركي الصريح الذي عبر عنه نائب الرئيس الأمريكي جيه. دي. فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث انتقد تعامل الحكومات الأوروبية مع اليمين المتطرف، ووجّه توبيخًا مباشرًا للدول الأوروبية بسبب ما اعتبره “قمعًا للحريات”مما حدى برئيس مؤتمر ميونيخ للأمن كريستوف هوسغن، ان يذرف الدموع بسبب مواقف أمريكا تجاه الأوروبيين، مؤكدا أن خطاب نائب الرئيس الأمريكي أظهر أن “أوروبا تحتاج الآن إلى أن تقلق من أن قاعدة القيم المشتركة ليست مشتركة على الإطلاق”
كما جاء تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليؤكد أنَّ “أميركا لن تدفع إلى الأبد ثمن حماية أوروبا”، وهو تصريح يعكس توجهًا أميركيًا متصاعدًا نحو فكّ الارتباط الأمني مع القارة العجوز، مما أثار ذعر القادة الأوروبيين.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل أفول العصر الأوروبي نتيجة سياسة أميركية جديدة، أم أنه انعكاس لانحدار أوروبي متراكم امتد لعقود؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب النظر في مجموعة من العوامل الجيوسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي أسهمت في تراجع الهيمنة الأوروبية.
1.الحرب في أوكرانيا
فالتحولات الجيوسياسية وغياب الدور الأوروبي و الحرب في أوكرانيا شكلت أحد أكبر التحديات التي واجهتها أوروبا في العقد الأخير وكان الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 بداية الحرب، أظهرت أوروبا كطرف ضعيف غير قادر على اتخاذ قرارات استراتيجية مستقلة، حيث بدا أن الملف الأوكراني يُحسم بين الولايات المتحدة وروسيا من دون دور أوروبي حقيقي.
وعلى الرغم من المساعدات العسكرية والمالية الضخمة التي قدّمتها دول الاتحاد الأوروبي لكييف، فإن معظم القرارات الحاسمة بشأن الحرب جاءت من واشنطن، بينما اكتفت العواصم الأوروبية بمواقف مترددة.
حتى عندما حاولت فرنسا وألمانيا قيادة جهود دبلوماسية للحل، لم تلقَ محاولاتهما صدى يُذكر أمام النفوذ الأميركي.
بل إن مستقبل أوكرانيا نفسها داخل الاتحاد الأوروبي يبدو غامضًا، حيث أن دول أوروبا الغربية مترددة في منح كييف عضوية كاملة، نظرًا للتكاليف الباهظة المترتبة على ذلك. ومع استمرار هذه الحرب، يتضح أن أوروبا ليست صانعة قرارات في قارتها بقدر ما هي تابع للسياسات الأميركية.
2. أميركا لم تعد الحامي الدائم
فموقف ترمب من عدم دفع ثمن حماية أوروبا ليس وليد اللحظة، بل يمتد إلى عام 1987، عندما كان رجل أعمال ولم يكن قد دخل عالم السياسة بعد. خلال زيارته لموسكو آنذاك، عبّر عن رأيه بأن “أوروبا يجب أن تدفع ثمن الدفاع عن نفسها”.
واليوم، وبعد عودته إلى الرئاسة، يتزايد القلق الأوروبي بشأن انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من التزاماتها الأمنية في القارة.
فحلف “الناتو”، الذي كان لعقود حجر الأساس في الدفاع الأوروبي، أصبح اليوم محل تساؤل، خاصة بعد انتقادات ترمب العلنية للحلف، وتصريحاته السابقة بأن واشنطن قد لا تلتزم تلقائيًا بالدفاع عن الدول الأوروبية في حال تعرضت لهجوم.
هذه التطورات دفعت دولًا مثل ألمانيا إلى التفكير في تعزيز إنفاقها العسكري، لكن يبقى السؤال: هل أوروبا قادرة على حماية نفسها من دون الولايات المتحدة؟
أما بخصوص الانحدار الاقتصادي والتحديات الداخلية فتراجع النفوذ الاقتصادي الأوروبي فقد أصبح واضحاً منذ بضعة عقود على الارض ، حيث كانت أوروبا قوة اقتصادية هائلة، لكنها اليوم، تواجه اقتصادياتها صعوبات هيكلية كبرى. ومن أبرز هذه التحديات:
- تراجع النمو الاقتصادي، خصوصًا بعد تداعيات جائحة كورونا والحرب الأوكرانية.
- أزمة الطاقة، حيث أدى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي إلى ارتفاع التكاليف الصناعية والمعيشية.
- شيخوخة السكان، ما يقلل من القوى العاملة ويزيد الأعباء المالية على الدول.
وبينما تواصل الاقتصادات الآسيوية، مثل الصين والهند، صعودها القوي، تبدو أوروبا متأخرة في سباق الهيمنة الاقتصادية العالمي.
ولابد من الإشارة إلى أزمة الاتحاد الأوروبي الداخلية، فقد ظهر ان وحدة القارة قد اهتزت بشكل ملحوظ منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). وعلى الرغم من نجاح الاتحاد في تجاوز أزمة بريكست، إلا أن التحديات الأخرى لا تزال تهدد استقراره، مثل:
- صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي ترفض سياسات الاتحاد وتعزز النزعات القومية.
- الخلافات بين الدول الأعضاء حول قضايا مثل الهجرة، والضرائب، والدفاع.
- الشكوك حول مستقبل العملة الموحدة (اليورو)، في ظل ضعف النمو الاقتصادي.
هذه العوامل تجعل الاتحاد الأوروبي يبدو هشًا أكثر من أي وقت مضى، مما يزيد من تعقيد قدرة أوروبا على لعب دور عالمي مؤثر.
أما بخصوص التحولات الثقافية والاجتماعية:
1. أزمة الهوية الأوروبية
تعاني أوروبا من أزمة هوية متفاقمة، حيث يواجه القادة الأوروبيون صعوبة في تحديد ماهية “القيم الأوروبية” في عالم سريع التغير. هناك انقسام متزايد بين المجتمعات الأوروبية حول قضايا مثل:
- الهجرة والاندماج، حيث تصاعدت المخاوف من فقدان الهوية الثقافية بسبب تدفق المهاجرين.
- الحرية والتعددية، حيث أصبحت هناك فجوة بين من يدعمون القيم الليبرالية ومن يتبنون مواقف محافظة.
- الدين والعلمانية، حيث تتزايد التوترات بين القيم الدينية والتوجهات العلمانية المتشددة.
2. تراجع التأثير الثقافي الأوروبي عالميًا
لطالما كانت أوروبا مصدرًا رئيسيًا للثقافة والفكر العالمي، لكن في العقود الأخيرة، تراجع هذا التأثير أمام صعود قوى ثقافية جديدة. فعلى سبيل المثال، أصبحت الولايات المتحدة والصين أكثر تأثيرًا في تشكيل الاتجاهات الثقافية، سواء من خلال الإعلام، أو التكنولوجيا، أو وسائل التواصل الاجتماعي.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه الان ،أوروبا إلى أين؟
يبدو أن أوروبا تعيش لحظة تحوّل مفصلية، حيث تتداخل العوامل الجيوسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في رسم ملامح مستقبلها. فبينما تبتعد أميركا عن دورها كحامية، وتتصاعد الأزمات الداخلية فيها ، يواجه القادة الأوروبيون تحديًا كبيرًا في إعادة بناء دور قارتهم على الساحة العالمية.
هل تستطيع أوروبا استعادة استقلالها الاستراتيجي؟ وهل ستتمكن من البقاء كقوة عالمية مؤثرة في عالم يتحول بسرعة؟
الإجابة على هذه الأسئلة ستتحدد في السنوات القليلة المقبلة، لكن الواضح حتى الآن هو أن العصر الأوروبي، كما عرفناه في القرن العشرين، يقترب من نهايته.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة