أمركة جائزة «بوكر» تخيف الناشرين البريطانيين
أمركة جائزة «بوكر» تخيف الناشرين البريطانيين يكثر في الأدبيات العربية التخوف من «الغزو الثقافي الأميركي». وإذا كان هذا الأمر مفهوماً عربياً لأسباب سياسية وتاريخية، ومفهوماً أيضاً في فرنسا حيث يخشى من تأثير الإنكليزية في لغة موليير، فمن غير المفهوم أن تثار هذه القضية في لندن، فبريطانيا هي التي «أسست» الولايات المتحدة وأعطتها لغتها، وترتبط بها بمعاهدات واتفاقات إستراتيجية وتتقاسم معها (وإن من موقع الشريك الصغير) مهمات إستراتيجية كبرى، وتطمح حكومتها إلى استبدالها بالاتحاد الأوروبي، وتعتبرها امتداداً لثقافتها.
واللافت أن البريطانيين الذين يتخوفون من هذا «الغزو»، مثقفون ينتمون إلى تيارات مختلفة، بعضهم يميني وآخر يساري، وثالث فوضوي. ولإضفاء مسحة من الإنسانية على موقفهم يلجأون إلى رفع شعار «مراعاة العالم الثالث» (دول الكومنولث). وقد تجدد الجدال في هذه القضية مع إعلان المشرفين على جائزة «مان بوكر» هذا العام الاحتفال بيوبيلها الذهبي (أسست عام 1968). وشُكلت لجنة للتحكيم من خمسة كتاب هم: روبرت ماكروم، والشاعر ليمان سيسي والروائية كاميلا شامسي والإعلامي سايمون مايو والشاعرة هولي ماكنيش. وسيقيّم كل من هؤلاء الأعمال الفائزة خلال السنوات العشر الماضية ويقترح أحدها على الجمهور ليصار إلى تتويج العمل الفائز من بين الروايات الخمس التي ستنتقيها اللجنة.
لكن الاحتفال سيجري وسط مخاوف من أمركة الجائزة التي كانت مخصصة للكتاب البريطانيين ومن دول الكومنولث، ثم سمح للأميركيين بالمشاركة فيها عام 2014. وعبّر عن هذه المخاوف 30 ناشراً في رسالة بعثوا بها إلى المشرفين عليها، طالبين إعادة النظر بهذا القرار كي لا تصبح الثقافة تحت الراية ذات النجوم (في إشارة إلى العلم الأميركي)، بعد أن فاز بها كاتبان من الولايات المتحدة خلال السنتين الماضيتين. ففي عام 2017 فاز بها جورج ساندر عن روايته «لينكولن في باردو» بعد حصول مواطنه بول بيتي عليها عام 2016. وإلى جانب ساندرز وصلت إلى القائمة القصيرة رواية «3421» لبول أوستر، و «تاريخ الذئاب» لإميلي فريدلوند، وروايتان بريطانيتان هي: «الخريف لإيلي سميث، و «الميت» لفيونا موزلي، و «الخروج غرباً» لمحسن حميد (من أصل باكستاني). أي أن نصف المرشحين لنيل جائزة العام الماضي كانوا أميركيين.
وجاء في رسالة الناشرين أن إفساح المجال أمام كل من يكتب بالإنكليزية وينشر في بريطانيا الترشح لنيل الجائزة أتاح الفرصة أمام الأميركيين للسيطرة عليها. وأضافوا:» إذا كان الهدف من القرار جعل الجائزة أكثر عالمية، فقد أتت النتيجة مخالفة لهذا الهدف، ففي خضم هذه العولمة غير المتكافئة اقتصادياً (بين دول الشمال ودول الجنوب) من المهم جداً أن نسمع أصواتاً من خارج المركز».
وأكد الناشر مارك ريتشارد إن موقّعي الرسالة لم يرسلوها إلى القيمين عليها بعد: و «نأمل بأن نجري مناقشات بناءة معهم فور وصولها إليهم» (ذي غارديان). وقال الفائز بها عام 2011 جوليان بارنز:» لم أعرف أغبى من هذا القرار». وتوقع الكاتب والإعلامي المهتم بالثقافة مالفن براغ أن تفقد الجائزة «خصوصيتها». ولم تجد عضو لجنة التحكيم سوزان هيل أي سبب لاتخاذ القرار. وتساءلت: «لماذا لا تكون لنا جائزتنا الخاصة؟».
أما عضو لجنة التحكيم ألستر نيفن (عام 2017) فدعا الكتاب في المملكة المتحدة إلى أن لا يصابوا بـ «الرعب بسبب المنافسة، بل عليهم قبول التحدي». وأضاف: «إذا كانت الجوائز الأميركية لا تسمح للبريطانيين بالترشح لنيلها فيا لبؤسها. فهذا دليل آخر على تطبيق شعار أميركا أولاً. وعلينا أن لا نشجع الدعوات المتكاثرة لرفع شعار بريطانيا أولاً».
أما في الولايات المتحدة فكان رد الفعل انفعالياً جداً. ونشر الناقد رون تشارلز في «واشنطن بوست» مقالاً جاء فيه: «أعزائي البريطانيين، أستعيدو جائزتكم». وأضاف:» إن أي قارئ جاد للرواية يعتبر أمركة جائزة بوكر إضاعة لفرصة التعرف إلى كتب عظيمة لم تنشر على نطاق واسع. دعوا أمتنا تخاطب أمتكم بالفن والحياة».
وكانت مؤسسة الجائزة أعلنت أن التغيير جاء احتفاء بالـ «الإنكليزية لإظهار مواهبها وحيويتها أينما كان»، وزادت أن القرار «أسقط قيود الجغرافيا والحدود».
وقال ساندرز خلال الاحتفال بفوزه العام الماضي إن الخائفين من الأمركة مثلهم مثل الذين يدعون إلى «حماية الثقافة في الولايات المتحدة… حسنًا هذه الليلة (ليلة الفوز) هي ليلة ثقافة عالمية تتسم بالانفتاح». وأشاد به نقاد كثيرون نظراً إلى «نزعته التجريبية الجريئة»، واعتبروا فوزه «فرصة ستستغلها جوقة الندابين الذين يتباكون على الهيمنة الأميركية». أما هو فأضاف: «وصلنا إلى ما وصلنا إليه (من بؤس في أميركا) بسبب الانحياز ضد الثقافة والإحساس بأن العمل الفكري لا يعدو كونه عرَضاً غريباً وجنونياً. وبذلك أصبح الخطاب العام غبياً».
قد يبدو في إشارة ساندرز هذه بعض التعالي، لكنه يقول عن نفسه دائماً أنه جامعي من أبناء الطبقة العاملة ونصيرها إذ نشأ وسطها فبعد تخرجه عاد إلى بلدته للمساعدة في الاعتناء بوالده المريض وعمل في عدد من الأعمال البسيطة. وأكد أن هذه المرحلة ساهمت كثيراً في كتابته وجعلته «يدرك مصاعب الحياة فمن ينغمس في العمل لا يقدر على فصل همومه المعنوية والروحية عن همومه العملية». وأضاف: «كنت أقضي ساعات العمل الأربع عشرة وأقول لنفسي، الآن صرت أفهم شتاينبك. الآن صرت أفهم الحركات الاحتجاجية. وأظل أفكر في ما قاله بول سيمون: ثمة انحطاط في أميركا يصاحب المادية والثروة. وكان ذلك جيداً بالنسبة إلي فبوسعي أن أكتب عن معاناة المواطن العادي. ولكنني نسيت كعب أخيل، أعني العنصرية في المقام الأول. فقد أخطأت في عدم انتباهي إلى ذلك لأن الحروب العنصرية لم تنته في أميركا بإلغاء العبودية، ولم أدرك هذا الأمر إلا في السنة الماضية. إننا نشيد بأنفسنا ونقول كم نحن متقدمون الآن وغير عنصريين لكن العبودية كانت ديْناً رهيباً لم يسدَّد حتى الآن ولن يسدد ما لم يخرج البيض رؤوسهم من الرمل». وزاد: «من المهم للغاية أن يكون المرء كاتباً. فأنا أرى العالم غير ما كنت أظنه. عليّ أن أعيد النظر في الأمر». وأشاد بقرار المشرفين على «بوكر» وبشجاعتهم «عندما أعلنوا أن الجائزة ستصبح دولية. وقال: «يمكنكم أن تستشعروا مدى اهتمام الناس بها في أميركا، فقد أثر القرار في الوسط الأدبي وبدأ التفكير في أن تحاكي الجوائز الأميركية هذا الأمر وتنفتح على العالم. على الأدب أن يكون بلا حدود». وأكد أنه يفهم شعور الأميركيين بالاكتفاء، ففي الولايات المتحدة: «عندما يكون المرء ذكراً أبيض، يؤمن بأن حركة التاريخ لمصلحته ومستفيد منها… لكن في لحظة الكتابة، تختفي كل المميزات المتعلقة بهويتك، ويحضر بدلاً منها شيء آخر عميق وسام، والقارئ أيضاً يمر بالتجربة نفسها. ويلتقي مع الكاتب».
وأكد أن فوزه بالجائزة البريطانية لن يسمح له بأن يرضى عن نفسه فـ «تشيخوف قال مرة: على كل رجل سعيد أن يعثر في خزانته على رجل شقي يحمل مطرقة ويذكّره من خلالها بالشقاء» وزاد: «كلما منحتني الحياة لحظة استقرار، تذكرت تشيخوف».
لكن أقوال ساندرز وإشادة النقاد بعمله الفائز بجائزة «مان بوكر» العام الماضي لم يقض على الخوف من أمركة الجائزة فعادت الأصوات المعارضة لمشاركة الأميركيين فيها إلى الظهور هذا العام وانضم إليهم الناشرون الذين كتبوا إلى المشرفين عليها طالبين إلغاء القرار. ولهؤلاء اسبابهم التجارية البحتة، إذ يخشون من منافسة زملائهم الأميركيين الذين يمكن أن يحصلوا على حق النشر والتوزيع في سوق أكبر بكثير من السوق البريطانية، ولا يعنيهم كثيراً التنظير في مسألة الهوية ودور اللغة في تكوين الأمة، أو دور المثقفين في تعميق الشعور بالإنتماء إلى وطن محدد أو الإنفتاح على العالم الأوسع فقد تركوا هذه المسائل للكتاب.