أطياف

أمير السكوت

أمير السكوت

إلى علي الجندي، رائد الحداثة الشعرية في سورية،

الشاعر الذي ما خان أصحابه ولا شاعريته…

ولم ينكِّس راية الحرية، رغم ديوانه (الراية المنكسة).

بارِكْ سكوتَكَ وانخطفْ كالنُّورِ

عبر معارجِ الملكوتْ

كم قيمةٍ نبويَّةٍ أبدعتها بِكْراً

وكم أودعتَ

من آلائك الزهراءِ

في غارِ السُّكوت!

لا شيءَ يُرجَى..

بعد أن كفكفتَ ظلَّكَ

عن سهوبِ العنكبوت

لا شيءَ غير هواجسِ الأطفالِ

في أن يبدعوا وطن التحدِّي

نضرا كأندلس الرؤى

حرَّ المدارس والملاعب والبيوت.

أدري.. بأنك لا تحبُّ برودةَ اليقطينِ

أو نيلَ السلامةِ هاجعاً في جوفِ حوت

فلنبتهجْ بغوايةِ الحريةِ العذراء

تُفعمنا بأحلامٍ ورادٍ.. كالفضائحِ

لا تهلُّ.. ولا تفوت

كنتَ الحياة بكل ما في سحرها

من كبرياءِ الصمتِ

في طقس التجلِّي والتناجي والوصالِ

فكيف تنوي أن تغادرَنا..

ولا وعد بكأسٍ أو لقاءٍ؟

كيف تقدرُ أن تموت؟!

دعني سميرَ القهرِ والنَّجوى

أحاولُ رسمَ صورتك البهيَّة:

الشَّنفَرَى يرتاد أطرافَ المدى

صقراً شآميَّ الهوى

لم يستبحْ لحمَ اليمامِ

كأنه حَرَمٌ…

ولم يحفلْ بغربانِ التكايا

أو خفافيشِ القلاعِ

ولم يبعْ لمحاكم التفتيش زاجلةً

ولو منحوه للغفرانِ ألوانَ الصكوك

هذي يدي ستلفَّ جرحَك

شاشةً مضمومةً كالقلبِ

فلنُشعلْ هشيمَ العسفِ والحمَّى

لنبعدَ عن مراياهم

محيَّاكَ الضحوك

نلقي لهم أشلاءَ مرحلةٍ

تغشَّت بالضحايا والمخازي والبنوك

رقصُ الأفاعي خيرُ ما فيها

وأعراسُ الديوك

أنت الفتى.. قيثارُ أمتكَ الشجيُّ

ونايُها الصدَّاح من بغدادَ

لا.. لن ينتهي بجراح غرناطة

عزُّ الصعاليكِ النَّشامَى

عنفوانُ الشعرِ في دنيا أميَّة

ارفعْ مع الماغوطِ

والجيلِ الذي ما خان أسرارَ الهوى

ـ كُرمَى لإخوانِ الصَّفاءِ ـ

منارةً.. تُدعى سلَمْيَة

واتركْ لديكِ الجنِّ

من ميراثِ وردةَ ما اشتهى

ناعورةُ العاصي تمادت بالأنينِ

تبثُّ فاجعةَ الضحيَّة.

جلَلٌ سكوتُك يا أبا اللَّهَبِ

النزفُ تحت الجلدِ أسرى..

أم تدفَّقَ في نسيج الروحِ

ملفوفاً بإعصارٍ من الغضبِ؟

خذني بحلمِكَ، يا أخي..

مكسورةٌ شيخوختي

فلنلتمسْ وطناً كأندلس الرؤى

يزهو وراء غبارِ كوكبةٍ من السحبِ

عبثٌ جدالُ اللاهثين إلى اقتناصِ الحورِ

في تلٍّ رماديٍّ من الحطبِ

ولعل أخزى ما شهدتَ هناك

قطعانٌ من الحيتانِ لا تُروى

ولا تشفى من الكلَبِ

كتلٌ من اللحم القديدِ

بلاطُ مسعورين بالسلطانِ والذهبِ.

دعنا من الرمم الخوالي

زبد العبابِ يظلُّ في مكنونِه زبدا

ولو طعَّمته بدم الدوالي

طالت بنا حمَّى فلسطينَ الفجيعةِ والفدى

بين الجيوشِ.. وثرثراتِ الأروقة

لا شيء يرجى في مدائن من دجى

حكمت على أطفالها بالزندقة

دعني أواصل ميتتي في سكرة المنفى

طليقا في حنايا الشرنقة

واسبح وحيدا في فضاء المحرقة.

ماذا جنيتَ.. وما ستجني من حياةٍ

نشتَهي فيها جهنَّم؟

لولا ثلاثٌ…

أنت أدرى أيهنَّ أحبُّ لك:

حورُ الجَمال المستحيلِ

ودونه وهجُ الدراري في نهاياتِ الفلَك

أم دوخةٌ عصفتْ بصاحبِها

ولم ترحمْ أباريقَ السُّلاف..

أم عنفوانُ الشعرِ

في أبهى شوارده؟

يا فارسَ الحرية العزلاء

سافرْ.. ولا تغفرْ لذي قربى

فتيلا من مظالمَ أو ظلام.

سقراط أدرك ما وراء الشَّوكرانِ

ولم يفكِّرْ بالخلودِ

ولا بآهاتِ الحريمِ

وأنتَ في إبحارِك الخمريِّ

هل عرَّيتَ ناموسَ الوجودِ؟

وكشفتَ أنَّ الآخرين هم الجحيم؟!

ماذا تَبقَّى من رؤى “لولا ثلاثٌ..” عشتَها

يا خارجيّ؟

ماذا جنيتَ من الرحيق المشتهى..

أو من جميلاتِ الوصالِ..

ومن فتوَّتكَ البهيَّة؟

عبثٌ تمادى.. في عبث!

يا بن الفُجاءة.. أيها القَطَريُّ

ماذا جنيت سوى مراراتِ السكوت؟

ذهب الشرابُ كأنه زبد جُفاء

ذهبت جميلاتُ الليالي كالهباء

الشعرُ باقٍ وحده

أصفى من الينبوع ، كوناً من درر

فاهنأ بأيكتك الجديدةِ سابحا

بين الثريا والقمر

باركْ سكوتَكَ..

أغلقِ الشبَّاكَ دون مهازل الماضي

ولا تأسفْ علينا.. أو لنا أبدا

وإن عشنا جميعا

– ـبعد أن رحلَ المغنِّي-

في سقر!

أبو ظبي – 6/9/2009

من مجموعة (أطياف ورياحين) المعدة للطبع.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى