أنت لست قليلاً

أنت غريب حيثما حللت ،وإن موطنك هو… الترحال.
________________________________________

لم تكن “عمان” بعيدة في يوم من الأيام إلى هذاالحد. كنا نصلها بعد ساعتين، في سيارة أجرة بخمسمائة ليرة.والان الطريق مقطوع بخمسة الاف رصاصه. وكان الطريق يشبه السفر بين محافظتين سوريتين ، من حيث المشهد من نافذة تطل على جغرافيا موحدة، وتاريخ موحد، ودول تحددها المخافر فقط. الآن كم هي بعيدة عن دمشق كل مدن العالم.

المسافر إلى الرقة مثلاً يحتاج العراق، في عملية التفاف خطرة، وأجور كانت، قبل الحرب، تكفي لتشتري منزلاً وحديقة.

وللوصول إلى أي مكان في العالم نحتاج الذهاب إلى لبنان، براً، وإلى تلك الوقفة المرتبكة المريبة المتوجسة أمام كوة الأمن العام، حيث ينظر إليك كمشبوه حتى يثبت العكس، وكلاجئ محتمل ، أو أحد أفراد عصابة مسلحة فار من سورية. وهكذا تحصل على فيزا عبور إلى المطار لا تتجاوز 48 ساعة. ثم نطير إلى عمان، حيث يدخل كل المسافرين (كل المسافرين من وادي عربة إلى عربات العروبه) وأنت السوري تجلس على مقعد في الصالة،فيما تذهب أوراقك إلى غرفة لتدقيق الوضع… هكذا يحس السوري أنه الشخص المتهم حتى يثبت العكس :المسافر لا اللاجىء، والمسالم لا المسلح.والاخ وليس العدو!

في الحقيقة ليس مؤلماً هذا الوضع لأنه شاق كسفر… وإنما لأن “معناه” يهيل الزمن الرديء على ما كان سهلا في العلاقات بين سورية وسواها. انت تنسى، للحظة، أنك لست قليل الشأن، لانك آت من بلاد دمرتها الحرب، ومن دمشق التي لا تنفعها تلك الجملة / الشائعة “أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ”. آت بكل هذا العناء المعنوي لتقرأ شعراً في مدرج روماني ، أمام زمن نثري، مؤرخا لآلام، كلما تجددت، محت ما سبقها، حتى لتبدو الشعرية العربية عربات تاريخ تجرها، حيناً خيول الزمن ، وحيناً آخر، كتابة النسيان.

في الحقيقة أيضاً…كان جميلاً، وضرورياً لعاطفتنا ، لقاء هؤلاء الأصدقاء الذين توقعت ألا أراهم مرة أخرى. بسبب الحدود، والمنع، والانقسامات، والخنادق، وبسبب وفرة أسباب الفراق.

لم نلتق وحسب، بل ألقينا، معاً، قصائدنا، واحتسينا خمرتنا، وفي ليالي ما بعد الأمسيات كان الموسيقيون الفلسطينيون القادمون من الضفة الغربية يطلقون صقورهم وعصافيرهم في فضاء ليل الغرباء. وكنت اردد جملتي المفضله ،المشحونة بعنصرية خفيفه :الفلسطيني أكبر وأجمل من أن يحكمه اسرائيلي .حين يمضي هذا الأسبوع… تبدأ الجملة العفوية المكتوبة بهواء الوداعات الرنانة: “صعب أن تفارق، مستحيل أن تبقى”.

كنا في ضيافة مهرجان “خان الفنون” بقيادة الشاعرة جمانة مصطفى. وهو جدير بحديث آخر خالٍ من خربشات اقلام المسافر.

لا أعرف، وأنا أكتب هذه الكلمات، كيف أقول:

وداعاً عمان.
مرحبا بيروت.
سلاماً دمشق.

الذي أعرفه أن بوسعنا أن نكون بلداناً وشعوبا صالحة للعيش الكريم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى