أنثروبولوجيا المشهد السوري
يميل بعض النقاد إلى محاكمة الأدب ومحاسبته، في محكمة الواقع، كما لو أن ثمة حاجة ملحة دوماً إلى إنسيكلوبيديا في السياسة المحلية والإقليمية عند قراءة عمل أدبي ما للمقارنة والتحقق. العلاقة بين الواقع (على نسبيته) والأدب، معرضة دائماً للالتباس في منطقتنا عموماً. إنها علاقة سلطة. نزاع. أمر لا نعزوه إلى الأديب نفسه، كطرف، ولا إلى القارئ أو الناقد. فالمضاربات في المصالح السياسية بين الدول الكبرى، لطالما انعكست ألماً ويوميات مريرة لدى الأفراد ما جعل هذا الواقع «شخصياً» جداً، انحفر بصيغ درامية قاسية ودموية أحياناً، وأنتج قصصاً (وحفز ولادة قصص أخرى) على الصعيد الاجتماعي «العادي»، لدرجة أصبح معه مستحيلاً تقريباً للمخيلة الإبداعية الإنفراد تماماً بذاتها، ما دام خزّانها الإبداعي هو ما تراه «واقعاً».
من هنا، يُحتمل أن تثير رواية «السوريون الأعداء» لفوّاز حداد (دار رياض الريس للنشر) تأويلات مختلفة، حساسيات وإسقاطات ونقاشات. فنحن نرى العالم السوري من وجهة نظر الكاتب سياسياً وروائياً. وطبيعي أن البعض سيرفضها شكلاً ومحتوى والبعض الآخر ستلقى استحسانه. إنها كالحالة السورية تماماً اليوم، جدلية إلى أقصى الحدود، مشتبكة بذاتها ومعقدة. أما على الصعيد الأدبي، فهناك كينونة أخرى مختلفة، تنجدل بنسيجها.
الرواية تتطرق إلى أحداث حماه أوائل الثمانينات. قصة طبيب (عدنان الراجي) ونجاته من الإعدام وأسره بعد مقتل عائلته وأبيه (عدا رضيعه الذي سيحمل لاحقاً اسم «حازم») ثم شقيقه القاضي في قصر العدل (سليم الراجي) وعلاقته مهنياً فيما بعد بالنقيب المهندس المسؤول عن مقتل عائلة أخيه. تقفل الرواية أحداثها بعد ثلاثين عاماً من تلك الواقعة بصورة تسلّم فيها الشخصيات كلها للأحداث الجديدة.
العمل الضخم لحداد، يتحرك في قسمين/ زمنين. يطوي كل منهما مناخاً سياسياً وإنسانياً، تحت وطأة حدث رئيس «هائل». لكل قسم فصول. في كل فصل، تتحرك ثلاث كُتل حكائية في شكل متوازٍ كما لو أن «لا صلة» بينها. فكل مسار يوحي وحتى قسم متأخر من العمل، بأنه مستقل. هناك كتلة الأجهزة الأمنية والعسكر والأحداث السياسية الإقليمية والمحلية، وكتلة السجن وعوالمه القاسية والأسرى، وكتلة القضاة والعدالة. إلا أن الثقب الأسود للحدث السوري والتغيير السياسي الذي يحصل، يجذبان الشخصيات الرئيسة بعضاً نحو بعض، ويلويان الخطوط الثلاثة لأزمنة الرواية (زمن النقيب/ زمن السجين/ زمن القاضي) لتؤلف لوهلة جديلة واحدة متوترة، سرعان ما تتفجر فيتطاير نسيجها بثلاث اتجاهات مختلفة.
تستقر اللغة تدريجاً في الرواية لتتناوب عليها نبرتان. نبرة الروائي، حين تطرقه إلى حياة كل من النقيب والشخصيات المحيطة به كلميس والرائد الشهيد وعلاقته بالقصر، وعدنان الذي سيصبح في السجن الطبيب والرقم 77 معاً، ونبرة أكثر ذاتية للقاضي الذي يحمِّله الروائي مهمة وصل أزمنة الرواية وأحداثها وشخصياتها كذلك، ويبقيه إلى حد ما محايداً، بعيداً من أي تورّط.
اللافت أن الشخصيات وعلى تعدّدها، مضبوطة درامياً. فهي غير ممسرحة، ولا مبالغة في تصرفاتها. إنها موظّفة في العمل لتشي. كذلك، هي متوازنة. فالكاتب لا يطلق أحكاماً مطلقة عليها ولا يتخذ منها مواقف شخصية. كل شخصية محاطة بظرفها الاجتماعي ومبرراتها الثقافية والفردية وحاجاتها الحياتية، على اختلاف خيرها وشرّها. نجدها في الحوارات منضبطة بصورة لا تسمح بأي خلخلة في بنيتها أو ثقب في نسيجها. كما لو أن لكل منها امتيازاً درامياً ضمن مساحة سردية وروائية خاصة.
وعلى رغم أن حدّاد يكتب على كربون الواقع، إلا أن ملكته الروائية تُمَكِّنه من ملء الواقع الشاغر بالأدب. فالمشهد الواحد يتمدد حتى الحدود القصوى. بما في ذلك الحوارات والإنطباعات والصمت والعلاقة بين الفرد ومحيطه أو مكانه أو الآخرين أو حتى أهدافه وغرائزه. كل ذلك من دون أن يتنازل الكاتب عن كينونة الأدب فيه. فلعبته تكمن في التعمق في كل شخصية حتى جذرها الأرفع، وإبراز لونها في أنطولوجيا الوطن الإشكالي، من دون ثغرات. نوع من التجوال في الخراب المكاني والإنساني، في اضطراب الركائز وهلهلة الثوابت الأخلاقية أو الموضوعية التي تظلّل مجتمعاً ما. الأمر الذي يحيل المشهد الواحد إلى متتالية من القطع البصرية والنفسية الصغيرة التي تسعى الى إحكام إغلاق أي نقصان محتمل في السرد. لذلك، فإن الرواية تبدو إشباعاً بصرياً وتكثيفاً وتوليداً وإستيلادا لتفصيل من آخر، كأنها جذب لسلسلة ثقيلة تمتد حلقاتها بعيداً.
وفي بحثها الدائم، في السؤال الميتافيزيقي، والقدرة الإلهية والحكمة، واشتمالها على حوارات «حساسة» تمس الدين ومفاهيم الثورة والبورجوازية وغيرها تذكر الرواية بمناخات رواية توماس مان «الجبل السحري».
لكن الرواية (بدءاً من الجزء الثاني من الفصل الخامس) تشهد تحولاً نوعاً ما في اللغة، فتعرِّف مباشرة بأسماء سياسية سورية ولبنانية وفلسطينية (أحداث حرب لبنان). هنا يبدأ الجذب بين المادة الإخبارية التي يدوّرها حداد روائياً في كل مرة، والمادة المجازية. ويتدخل «التاريخ» والتحولات السياسية، كمناخ عام، يترسب في الصيرورة الدرامية لكل فرد، ويمهد لخياراته في آخر العمل.
«السوريون الاعداء» وعلى قسوة عنوانها، تمثّل أنثروبولوجيا المشهد السوري، بحاضره وماضيه، وتذكاراته الأليمة التي لا تزال تتوالد.
صحيفة الحياة اللندنية