أي حكمة في انتصار الدين على الدولة؟

مع اشتداد موجات التعصّب الديني في العالم العربي وارتفاع أصوات الدعاة في الفضائيات ومجالس الشعب والمؤسسات الحكومية وتكرار ظاهرة الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى في موعدين مُنفصلين، فضلا عن الصلاتين والأذانين والجدل المُتصاعد على مواقع التواصل الاجتماعي حول أحداث تاريخية قديمة، بات الإصلاح الديني حاجة مُلحّة لشعوب العالمين العربي والإسلامي، وهو إصلاح لا يتحقق بشحطة قلم او فتوى دينية او تكليف شرعي، لأنه عملية طويلة الأمد تحتاج الى عقود وأجيال من الشباب اليافع المُعافى من ثقافة التعصّب.

ثمة انقسام مجتمعي شامل وعنيف أدى في النهاية الى بروز كُتلتين اجتماعيتين كبيرتين: كتلة عقائدية مُنظمة في تشكيلات إسلامية مُسلحة، وكتلة مدنية غير مُنظمة وغير مُسلحة، لكنها تنتمي الى طوائف مختلفة. وراء هذا المشهد السوريالي المُزدحم بعناصر التنافر والاختلاف، يلوح الإصلاح الديني في الأفق البعيد سرابا لا حدود له سوى حدود الدم والموت. فدون هذا المُشتهى المؤجل عقبات كأداء وصراعات مُستحكمة بين دول وأفراد وجماعات تحتكم جميعها الى العنف والغلبة كمُحدد أساس لتوزيع النفوذ والسلطة والمال والثروات. لكن الإصلاح إذا ما قُيّض له ان يحصل، بمعجزة او بحكم الضرورة، فإن نجاحه سيكون مرهونا بتحقيق ثلاثة أمور باتت مُلحّة أكثر من اي وقت مضى. الأمر الأول هو حماية المدنيين العُزل من إرهاب التكفيريين. والثاني هو كبح جماح الحركات الدينية المُتطرّفة إفساحا في المجال لقيام أنظمة مدنية. أما الثالث فمُصالحة الإسلام والمُسلمين مع شعوب العالم الأخرى.

لكن ماذا يعني الإصلاح الديني في الوقت الراهن؟ إنه يعني القيام بثلاث خطوات لا بد منها من قبل المرجعيات والمؤسسات الدينية الكبرى المُمثلة للمذاهب الإسلامية المُتعددة:

أولى هذه الخطوات، تبنيّ مبدأ حرية الأفراد في اختيار العقيدة الدينية، وهو ما نصّت عليه الدساتير المدنية. هذا المبدأ يتطابق مع النصّ القرآني القائل بأن «لا إكراه في الدين». معنى ذلك ان لكل إنسان الحق في اختيار دينه بعيدا عن الإكراه والترهيب والتنكيل والإذلال والتبخيس والتحطيم المعنوي واستخدام وسائل القهر الاجتماعي والنفسي او الإغراءات المادية. فالإيمان الذي نصّ عليه القرآن الكريم هو الإيمان المبني على الحرية الكاملة والاقتناع الحر والإرادة الحرة والضمير الحر والعاطفة الحرة. وهو قيمة إنسانية عُليا تلتقي مع أسمى المفاهيم الإنسانية التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان.

ان حرية اختيار المُعتقد هي المقدمة الأولى لأي عملية إصلاح تطال المؤسسات الدينية والفكر الديني. شرط ان يتبع ذلك تحديد آليات تطبيق هذا المبدأ في كل الميادين وبكل المعاني المُتفرّعة عنه. فلم يعُد جائزا في هذا العصر منع أي إنسان من مُمارسة حقه في اختيار دينه تحت طائلة التكفير وتوجيه التُهم إليه بالردّة او احتقار المجتمع الذي ينتمي إليه. وهي تُهم أخلاقية ومعنوية كبرى تترتب عليها نتائج باهظة الثمن قد تصل الى وضع حد السيف او حبل المشنقة حول رقبة المُتهم بها، او في أحسن الأحوال الى نفيه من المجتمع الذي يعيش فيه. فكيف إذا ما طالت هذه التُهم مُجتمعات بأكملها مع ما يقتضي ذلك من إنزال العقاب بمئات الملايين من البشر!

في هذه الحالة تتحمّل المرجعيات الدينية القسط الأكبر من المسؤولية عما آلت إليه أحوال رعيتها. علما بان هذه الرعية اعتادت على الالتزام بفتاوى وآراء رجال الدين مهما جنحت تلك الآراء نحو التطرف والمُغالاة في إصدار الأحكام والفتاوى. وهي عادة مُكرّسة في المجتمعات الإسلامية يعود أصلها الى تحريم النقد والنقاش في المسائل الدينية من قبل عامة الناس.

ثانية هذه الخطوات، تبنيّ مبدأ فصل الدين عن الدولة من قبل المرجعيات والمؤسسات الدينية. وهو البند الذي يلقى مُعارضة شديدة من قبل حركات الإسلام السياسي على اختلاف اتجاهاتها الفكرية. لكن هذه الحركات باتت تُدرك من خلال تجاربها الخاصة حجم الإشكالية الناجمة عن خلط الدين بالسياسة. لهذا السبب شكلت هذه الحركات كتلا سياسية شبه مدنية مهمتها خوض الانتخابات وتسلم المناصب الوزارية والرئاسية «بلباس مدني» وخطاب تعبوي مُختلط يجمع بين الديني والسياسي.

إلا ان هذا التدبير لم يحُل المشكلة. ويعود السبب في إخفاقه الى ولاء النواب والوزراء المحسوبين على الحركات الإسلامية لقيادة دينية مُحتجبة خلف الستار لها حق الأمرة السياسية عليهم. هنا تقع المُفارقة في اللعبة الديموقراطية. لأن الديني في طبيعته أسمى وأعلى وأقدس من السياسي، ما يجعل الاعتبارات الدينية تعلو دائما على الاعتبارات السياسية والمصالح الوطنية (وإلا اعتبرت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة نفعية او تكتيكية). كذلك الولاءات الحزبية كونها ترتبط بعقائد مقدسة ورجال دين شبه مُنزّهين يتمتعون بنفوذ خارق لحدود الدول والكيانات السياسية. من هنا تنشأ الازدواجية في المواقف والأفعال والسياسات التي تنتهجها الحركات الإسلامية في الحكم والمعارضة. إلا ان هذا الأمر يبقى في حدود الاحتمال تحت سقف اللعبة الديموقراطية، ما لم يلجأ الإسلاميون الى العنف وحمل السلاح دفاعا عن العقيدة المُقدسة او استجابة لنداء الجهاد او من أجل الحصول على حصة أكبر في الدولة. هنا تصل الأمور الى الخواتيم المُحزنة التي تخشاها دائما القوى والأحزاب المدنية. فحركات الإسلام السياسي تبدو في زمن السلم تنظيمات مركزية جبّارة بإمكانها حشد المؤيدين لها بسهولة واقتدار تُحسد عليهما، لكنها في زمن الحرب تظهر كتنظيمات مُرعبة يُمكن ان تتحوّل بسرعة الى تشكيلات عسكرية لامركزية جاذبة لأعداد لا تُحصى من المُجاهدين الدوليين ومعهم كل أنواع المُخابرات الدولية والإقليمية.

أما في ما يتعلق بدور الدولة في مجال الدين، فليس من وظائف الدولة ان تتحوّل الى حَكَم او قاضي صُلح بين الطوائف والأديان. وهي إن فعلت ذلك فتكون قد أصبحت دولة فاشلة بامتياز (لبنان مثالاً). كما لا يُمكن توريط الدولة في نزاعات الأديان لأنها بانحيازها لهذا الطرف او ذاك لن تحصد إلا الخراب والدمار لمؤسساتها (العراق مثالاً). ولا يوجد حل لهذه المُعضلة إلا بفصل الدين عن الدولة عن طريق الإصلاح الديني والإصلاح السياسي الذي يبدأ بتعديل قوانين الترخيص للأحزاب.

ثالثا، على الإصلاح الديني ان يُكافح ظاهرة التطرّف والتعصب التي قد تقف وراءها مصالح سياسية او مادية، والتي يمكن ان تتحوّل مع الوقت الى تعصب حقيقي وكراهية مُتبادلة بين المُسلمين. فالعالم الإسلامي اليوم يعوم على بحر من الكراهية والعداء المذهبي، كراهية عمياء تأكل الأخضر واليابس. عشرات بل مئات من وسائل الإعلام تبث معتقداتها المذهبية على الهواء مُباشرة مُستخدمة حقها في حرية التعبير. والنتيجة فورية ومُذهلة: تجييش وشحن مذهبي وانفلات غرائز وحروب بالواسطة تُديرها استخبارات دولية. وهو ما يعني في التحليل النهائي ان موجات التعصّب الديني تُشكل الأرضية الخصبة لكل من يريد العبث بمصير الشعوب العربية والإسلامية.

اليوم يحكم العسكر ورجال الدين الشعوب العربية بالقوتين، المادية والمعنوية. لكن الشعوب منهارة وهائمة على وجوهها وسط إرهاب ديني عشوائي وحرب على الإرهاب تتولاها جيوش يدفع أفرادها ضريبة الدم دفاعا عما تبقى من هيبة الدولة. وبين السيئ والأسوأ يُضطر المدنيون العُزل والقوى المدنية الضعيفة لاختيار النظام العسكري الفاشي خوفا من الإسلام السياسي.

هذه المآلات الكارثية التي وصلت إليها الشعوب العربية تستوجب إعادة النظر في استخدام وسائل الإعلام العامة والمدارس والجامعات ومؤسسات الدولة والشوارع والساحات من أجل التبشير الديني والمذهبي. فهذه الأماكن تحوّلت الى منابر تدور فوقها مُنافسات حادة وساخنة بين المذاهب الإسلامية (برغم كل قصائد الغزل في الوحدة الإسلامية). إنه التطور الأبرز الذي وفّر الفرصة الذهبية للغرب، المُنكفئ والخارج من النافذة رغما عن إرادته، لكي يعود إلينا فاتحا من الأبواب العريضة. أبواب الفتنة والتقسيم والشرذمة والكانتونات والأنظمة العسكرية. فأي حكمة في هذا الأمر؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى