إبراهيم أصلان: صيّاد اللحظات الصعبة

المرة الأولى التي التقى فيها الروائي المصري عبد الحكيم قاسم بابراهيم أصلان صرخ في وجهه: إنك وسيم.. هكذا ينبغي ان يكون الكاتب. وبالفعل كان إبراهيم أصلان (1935-2012) وسيماً في الكتابة.. كما كان وسيماً في الواقع والحياة. في حياته لم تتوقف مفاجأته، وبعد رحيله تتواصل عطاياه: كتابان جديدان لأصلان صدرا مؤخراً عن هيئة الكتاب، وكان مدهشاً نفاد الطبعة في الأيام الأولى لمعرض القاهرة للكتاب مباشرة. ويتبقى كتاب ثالث لم ينشر حتى الآن.. اختار مالك الحزين عنوناً له قبل أن يرحل «تمارين على الابتسام» ويتضمن مجموعة من مقالاته الهامة التي كتبها قبل الرحيل. «صديق قديم جداً» هي العمل الروائي الأخير لأصلان، الذي انتهى منه قبل الرحيل، ولكن احتار في عنوانه هل يسمّيه «الصاحبان».. أم «صديق قديم جداً».. في النص يأخذنا – كعادته في رحلة بحث يتداخل فيها الذاتي بالخيالي ليقدم نصاً بديعاً يتوفر فيه جميع الخصائص الفنية والأسلوبية التي أسسها أصلان وحفر لها بعمق فى التربة السردية العربية. كعادته يبدأ أصلان من لحظة عابرة ليحوّلها بيد صائغ إلى عالم واسع محتشد بالتفاصيل. من البحث عن اسم صديق قديم غاب في غبار الأوراق المهملة وتخلّت عنه الخرائط، يبدأ البحث، وتتشكل رحلة الاستحضار، استحضار وجود غاب أبطاله الأصليون مخلّفين بالكاد أسماء علقت بالذاكرة وتشبثت، رافضة مغادرتها. هكذا يخوض أصلان في «صديق قديم جداً» بحثاً محموماً، مدعوماً بذاكرة ما تزال واثقة في قدرتها، ليس فقط على استعادة عالم مندثر لينهض متجسداً مكتملاً كأنه لم ينسلخ عن صاحبه يوماً. وتعد هذه الرواية رواية استثنائية تنشر لأول مرة ليكتمل عقد أصلان الروائي بها مؤكدة عالمه المتفرد والذي لا يشبه سوى نفسه. الكتاب الثاني بعنوان «انطباعات صغيرة حول حادث كبير». وهو مجموعة حكايات عن ثورة 25 يناير، التقطها أصلان من التفاصيل الهشة والعابرة من الأشخاص المنسيين الذين لا تعرف وجوههم الكاميرات ومن الشوارع الجانبية التي تخاصمها الطرقات المضيئة صانعاً محكية استثنائية تستعصي على التصنيف.. كتب أصلان عن تلك التفاصيل الصغيرة غير الدّالة على أننا أمام «ثورة»، ولكن هناك «جوّ عام» يحرّك الأحداث.. سنجد المرأة التي اعتادت تنظيف السجاد من شرفتها.. وتفاجأ ذات صباح بأن دبابة تقف أسفل الشرفة، أو العجوز الذي أغلق بابه عليه وقت الثورة ولم يعد ينظر من شرفته، أو بائع الفاكهة الذي اعتاد أن يضع إلى جوار مقاطف الخضر سَبَتاً خالياً يلقي فيه الثمار المعطوبة كي يتخلص منها آخر النهار، ويأتي رجل عجوز كل صباح ويركع إلى جوار هذا السَبَت وفي يده سكين صغيرة حادة وينتقي بعض هذه الثمرات ويستأصل ما بها من عطب يتركه بالقفص، ويأخذ ما تبقى منها مهما كان ضئيلاً ويُسقطه سليماً في حقيبة مفتوحة إلى جوار قدمه، عن بائعة الجرجير التي كان السؤال الذي يشغلها: هو صحيح خد كل الفلوس بتاعتنا وخبّأها برّه؟ عن الديكتاتورية وكيف يمكن أن تدمّر عقلاً بشرياً؟

رحلة إبراهيم أصلان مع الفنّ والحياة لا يمكن تلخيصها بسهولة. سنجد أنفسنا أمام صيّادٍ ماهر للحظات مستعصية على الكتابة. في مقتبل حياته، عمل في هيئة البريد لفترة طويلة، ومن هناك تعلّم الاختصار. الصيد والإيجاز أبرز سمتين في عوالمه الإبداعية. بدأ صاحب «مالك الحزين» (1983) الكتابة كسائر الكتاب، بالخواطر، ثم نشر مسرحية قصيرة في مجلة «الثقافة». وتجمّعت لديه عشر قصص قصيرة نشرها في الصحف، من بينها «عصفور على أسلاك الترولي»، وهي القصة التي تحوّلت إلى مدخل لرواية «عصافير النيل» (1999) لاحقاً. لكنّه كان يشعر أنّ هذه القصص تشبه قصص «الآخرين»، ولا تشبهه. لهذا، قرّر أن يمزّقها وعاد إلى القراءة، وتحديداً إلى كتّاب ثلاثة، هم هنري جيمس، وإرنست همنجواي، ومارك توين. كتب عن هؤلاء في مجلة «الثقافة الجديدة»، ومطلع العام 1965، بدأ كتابة قصص «بحيرة المساء» التي أصدرها العام 1971 بعدما شعر أنّه وجد صوته. قبل أن يصدر أعماله، حدَّد أصلان موقفه من الكتابة: هناك كتابة «طليعية»، وأخرى «رديئة». برأيه ليس هناك حلول وسط، فإما أن يكون هناك فنّ أو لا يكون. وبالتالي، تصير أعمال أبناء جيله يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، وحافظ رجب، وصنع الله إبراهيم، كتابات طليعية… أما كتابات عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، والآخرين، فرديئة. في الطفولة، كان الصيد هواية أصلان. تعلّم منه الصبر والقدرة على «معرفة الغمزة الملائمة لجذب السنارة»، وهي أمور تحتاج إليها الكتابة أيضاً. أما عمله في مصلحة البريد، فعلّمه أنّ كل حرف ينبغي أن يكون له مقابل مادي، ليخلص إلى كتابة كل ما هو مفيد وضروري فقط. كان يهرب من الكتابة بتمزيق ما يكتب. وعندما تعلم استخدام الكمبيوتر، اكتشف ما يتيحه من قدرة في «الحذف»، فسهّل مهمة المسح والإلغاء، لكن ليس مهمة الكتابة. هذا الأمر ميّز نصّه منذ البداية. كان يؤمن بأن كل ما يمكن استبعاده يجب أن يستبعد. فأهمية المكتوب تكمن في قدرته على التعبير عن كل الأوجاع غير المكتوبة، لأنّ ما هو حقيقي يكون عصيّاً على الكتابة في الغالب. قال: أؤمن بأن كل ما يمكن استبعاده يجب أن يُستبعَد، والمكتوب لا يكون مهماً في حدّ ذاته ولكن أهميته في قدرته على التعبير عن كل الاوجاع غير المكتوبة لأن ما هو حقيقي غالباً يكون عصياً على الكتابة. يشبه أصلان ما يقوم به مثالين الأول: الروائي مثل البستاني في علاقته بالحديقة أو النحات في علاقته بالتمثال؛ يوضح أصلان: النبتة الصغيرة عليها ان تزيل الحشائش الضارة والأعشاب وكل ما يعيق نموها، وهذا بناء يقوم على الاستبعاد لأنه بناء يتعلّق بما هو حيّ وكل بناء حيّ من شجر وإنسان وحيوان عمل فني، لو تأمّلت الأمر فستجده لا ينحو إلا نحو استبعاد ما يعوق هذا النمو وهذا يكون شرطاً اساسياً لبناء أي كائن حي والعمل الفني هو كائن عضوي في نهاية الأمر وبدايته. المثال الثاني: النحات الذي يتعامل مع قطعة من الحجر وفق تصوّر ما لديه، بينما نحات آخر يستشعر عبر العلاقة الحميمة بينه وبين الحجر أن كائناً ما أو شكلاً ما داخل هذا الحجر يُريد أن يتحرر منه، وتكون مهمة النحات المساعدة على إظهاره، أو إتاحة الإمكانية لتحرّر ذلك الشكل الكامن داخل الحجر، حتى لو جاء غير مُتلائم مع قواعد التشريح. هذان المثالان حددا علاقة أصلان بالكتابة: (نحن لا نكتب حياتنا وإنما نكتب بها… وأي نص يستمد قيمته وقدرته على التأثير ليس مما هو مكتوب، ولكن من قيمة الزاد أو الطاقة الروحية التي كتب بها).

قلة الإنتاج هي «التهمة» التي كان النقاّد يواجهون بها أصلان. يكاد يكون أقل كتّاب الستينيات إنتاجاً.. كان يقول دوماً: «أعتبر نفسي عاشقاً للكتابة وهاوياً لها. ولست كاتباً محترفاً مفروضاً عليه أن يكتب. ولديّ يقين بأنّه إذا لم يكن ما أكتبه يلبّي احتياجاً داخلياً لا يمكن تفاديه، فإنه من الصعب أن يلبّي احتياجاً لدى القارئ». كان أصلان يكتب إذاً كأسطى، يعشق عمله الذي يكتبه، وهو ما يتطلب منه «حالة مزاجية» عالية. لذا يريحه دوماً وصف الأديب الراحل يحيى حقي لهذا النوع من الكتّاب بـ«المنتسبون إلى الكتابة لا محترفوها». في أيامه الأخيرة، كان مبتهجاً بالثورة، يتابع تفاصيلها وتأثيرها. قال: «مهما كانت نتائج ما يحدث حالياً، فأنا ممتلئ فرحاً لأنني لم أرحل قبل أن أشهد أبناء مصر وهم يقدّمون للعالم بطاقة تعريف جديدة لهذا الوطن». في ليلة رحيله، منذ ثلاث سنوات تقريباً، أبدى رغبته في مشاهدة فيلم «منتصف الليل في باريس» الذي يتحدث عن همنغواي أستاذه الحميم. وعده سعيد الكفراوي بأن يحضره له في اليوم التالي. لم ينتظر أصلان أن يشاهد الفيلم. جلس على كرسيّه الهزاز الذي لطالما كتب عن حبّه له… ومضى!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى