إبراهيم فرغلي: ابن رشد معاصرنا… أصبح الحديث عن الرواية التاريخية وجدواها وامتلاك الكاتب الحقّ في إنطاق الشخصية التاريخية، بما يراه خياله مناسباً لسياقات نصه وعلاقات عناصره، أمراً يحتاج إلى نقاش جدّي، وتفنيد العنصر الأهم من العناصر التي تشكّل أدبية النص وفنيّته.
كثرت هذه النصوص في المرحلة الأخيرة وتنوّعت. لجأ أصحابها إلى التاريخ، ومنهم اكتفوا بالحدث وما صاحبه، وخلقوا شخصياتهم من ذلك الواقع وما قرؤوا عنه. ومنهم من اتخذ شخصية تاريخية لها أثرها ونتاجها. حاكوا حولها الحكاية، ونطقت بما عرّفتنا به كتب التاريخ. وآخرون جعلوها تنطق وتتحرك وتكون شخصية من شخصيات النص الرئيسية. وفي «بيت من زخرف – عشيقة ابن رشد» (دار الشروق ــــ 2024) للروائي المصري إبراهيم فرغلي. نحن أمام رواية عادت إلى ابن رشد، وجعلته يحكي ويتحرك. وحمّلته الكثير ممّا قد يكونه، أو هو بالفعل خلقٌ جديد من نتاج الروائي المبدع وخياله.
نعود إلى بناء النص وشخصياته وأحداثه. فالرواية تبدأ في قرطبة. حيث الأستاذ الجامعي المصري الهارب من ماضيه، سعد الدين، أو اسكندر، الذي تطالعنا الرواية في بدايتها بالقليل عن قصته. إلى أن تبوح بتلك القصة، لتكون غاية من غايات النص الرئيسية. يلتقي بتلميذته، ماريا إيلينا، وتبدأ الرواية بقبلة رابطة الدم بينهما. ومن هناك تنطلق القصة الغريبة. تطلب منه ماريا نبش قبر صديقتها لإخراج أوراقٍ دفنتها معها ولكنها أرادت استرجاعها. نعرف لاحقاً أنّ هذه الأوراق تحوي قصة لبنى، عشيقة ابن رشد، كتبتها مانويلا وصاغها اسكندر/ سعد الدين في كتاب.
إبراهيم فرغلي: ابن رشد معاصرنا
نقرأ في الرواية أجزاء ستة، إذ تنهي ماريا إيلينا مصير الكتاب في الجزء الأخير. لكن في الأقسام الخمسة الأولى، نقرأ تميّزاً في الأسلوب واللغة يأخذ المتلقّي إلى التمسّك بالقصص المختلفة من دون الضياع بينها على كثرتها. وهو أمر قد يصيب النص التاريخي المتنقّل بين الأزمنة والأمكنة وتنوّع شخصياته. فكنا نقرأ الزمن الحالي، وتعلق في ذاكرتنا ومخيلتنا قصص اسكندر مع عاصي. ويمرّ النصّ على الكثير من الشخصيات التاريخية التي نعرفها، كابن جبير وابن الطفيل، كأنّ الكاتب طوّع اللغة بأسلوب فيه من التناغم ما قلّ نظيره في نصّ تاريخي، جعل قارئه يمسك بكل الخيوط، فيشارك الكاتب الحياكة والمتعة. قصص من الحاضر كانت غاية بذاتها، ونوّعت قضايا النص حتى كادت تفيض: قصة زياد الذي قرر الالتحاق بـ «داعش»، وقصة عاصي وقضاياها.
ولعلّ أبرزها، وهي الأساس الذي بنيِت عليه فكرة الرواية. أي قضايا التفريق التي ضجّت بها مصر، وهي تفريق المحاكم الشرعية بين زوج وزوجته بطلب من أهلها، بتهمة أنّ الزوج «كافر» أو «مرتد» أو ما إلى ذلك. وهي في الرواية قصة سعد الدين التي نعرفها في ما بعد، وبسببها تموت الزوجة جليلة ويهرب هو. تلك القصة التي أرادت الرواية مقارنتها بقصة ابن رشد، الذي اتهم بالكفر وتعرّض للنفي ومنعت كتبه وأفكاره وأحرق نتاجه. فيكون الاستنتاج بأنّ لجوء النصّ إلى التاريخ هو من أجل طرح قضايا الحاضر.
الحب في رواية «بيت من زخرف – عشيقة ابن رشد»
الحبّ بأشكاله المختلفة كان حاضراً في النص، ولعل أبرز شخصية تحدّثت عنه هي ماريا إيلينا. فقد رأيناها وفية لمانويلا، ووفية لاسكندر، وقد سألت نفسها أسئلة كثيرة حول هذا الأمر، وخصوصاً في نهاية الرواية عندما قارنت صداقاتها بصداقة لبنى وراحيل. ومعها كانت علاقات الحبّ التقليدية التي لم تجعلها الرواية تكبر وتحتل مساحة كبيرة فيها، فاسكندر لم تكتمل علاقته بماريا إيلينا كما توهّمنا، وابن رشد لم نشهد على اعتراف منه بالحبّ تجاه لبنى، وقد كان النصّ دقيقاً في عدم إفساح تلك الفرص، لأنّه أراد أن يبقي على الإيهام بالعشق والعلاقات، لا الإغراق فيه.
تميّز النصّ بلغته كما أسلوبه، وابتعد عن التكلّف. ولعلّ أبرز ما ميّز اللغة، وهو أمر مرتبط بحرفية الكاتب، أنّ المتلقي كان يقرأ كلّ قصة بلغة زمانها، أو ما أوهمتنا الرواية بأنها لغة ذلك الزمان، فعندما قرأنا «الطير يحكي»، أو «المشّاء» أو «النسّاخ» أو »الورّاق»… ومعهم سمعنا أصوات ابن رشد وغيره من شخصيات أندلسية، كنا نقرأ لغةً مختلفة عن فصول أخرى، إذ نسمع كلام اسكندر ومانويلا وماريا إيليا وغيرهم، لغة الحاضر… وعندما قرأنا قصة لبنى، كانت لبنى، بوصفها شخصية امرأة، تتحدث بلسان مختلف، لسان المتحدية والجريئة، وفي ما بعد العاشقة. هذه الحرفية هي ما ميّز النصّ وجعله قريباً من ذائقة المتلقي على اختلافاتها.
الشخصية التاريخية في الرواية
نعود إلى إنطاق الشخصية التاريخية، الأمر الذي لا دخل له بنجاح النصّ فنيّاً. فقد نجح وكان متميّزاً أيضا. بذل فيه كاتبه مجهوداً عظيماً في البحث والتمحيص والتدقيق. كما وبذل الجهد الأكبر في حياكة نصّ جاذب معاصر وتاريخي في الوقت نفسه، ليعالج قضايا الحاضر. ولكن السؤال الأهم: هل يحقّ للكاتب، في هذه الرواية أو غيرها، أن ينسب أحداثاً وكلاماً وحوارات وعلاقات، لشخصيات عاشت قبل ألف عام كما في هذه الرواية، أو قبل مئة عام، أو قبل عام واحد حتّى؟ وهنا نقصد قصة هذه العشيقة، لبنى: هل أحبها ابن رشد أم لم يحبها؟ وهل عادت معه أو لم تعد، وبشكل أدقّ هل كانت موجودة أم لا؟ أولم يكن باستطاعة الكاتب، أن ينسبها إلى قصة من إبداعه، وابراهيم فرغلي قادر على هذا الخلق، بدلاً من تحميل نفسه ونصّه مسؤولية ما قد يكون تحريفاً أو خلقاً وادعاءً تجاه شخصية كابن رشد؟
لقد حقّق النصّ غايته تجاه القضايا التي حملها، ونجح الكاتب في إنتاج نصّ روائي على مستوى عالٍ من الحرفية والفنية. وكانت شخصيته ومواقفه بارزة تجاه الدين والمجتمع والتاريخ أيضا. أجرى محاسباتٍ وإعادة قراءات للكثير من الأفكار والطروحات. ولكنه أبعد نفسه عن نقد الواقع الحالي، لأنّ بنية النصّ كانت تحتاج إلى ذلك، أو كان متقصّداً لأسباب تخصّه.
صحيفة الأخبار اللبنانية
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر