إردوغان وبوتين وبينيت.. المضائق مقابل إدلب فماذا عن “إسرائيل”؟
في الوقت الذي كان فيه نفتالي بينيت يبحث في الكرملين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطورات الأزمة الأوكرانية ومستقبل العلاقات الإسرائيلية- الروسية، (راجع مقال: “بعد الحرب في أوكرانيا.. هل سينتقم بوتين من حكام “إسرائيل” ومتى؟” بتاريخ الـ 27 من شباط/ فبراير)، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن زيلينسكي “عبّر خلال اتصاله مع إردوغان عن استعداده للاجتماع مع بوتين في اسطنبول أو أنقرة، وإن إردوغان نقل هذه الرغبة إلى الرئيس بوتين فوراً”.
اتصل بينيت بعد عودته إلى تل أبيب بكل من ماكرون وشولز وبايدن إثر زيارته موسكو، ثم عاد واتصل ببوتين. التحرك الإسرائيلي الذي جاء بعد الانزعاج الروسي من موقف تل أبيب، والنداء الذي وجّهه زيلينسكي باللغة العبرية إلى يهود العالم، مستنجداً بهم، رافقه تحرك تركي مماثل يهدف إلى إقناع موسكو بحيادية أنقرة في الأزمة الأوكرانية (راجع مقال: “بوتين في دونباس.. هل اقترب الحسم في إدلب وشرق الفرات” بتاريخ الـ 24 من شباط/ فبراير). فقد أكد إبراهيم كالين “أن تركيا لا تنوي فرض أي عقوبات على روسيا، لأنها لا تريد أن تكون طرفاً في النزاع، ما دامت تتمتع بعلاقات جيدة، سواء مع روسيا أم مع أوكرانيا، وهي من الدول القليلة التي تستطيع الحديث مع طرفي النزاع”.
كلام إبراهيم كالين هذا صادف الخبر الذي نشرته وسائل الإعلام الروسية، نقلاً عن مصدر عسكري روسي، جاء فيه “أن عناصر من جهاز الأمن الأوكراني مع ضباط الاستخبارات الوطنية التركية قد زاروا شمالي سوريا حيث يسيطر الجيش التركي، والتقوا بقادة عدد من الفصائل الموالية لتركيا، كفرقة السلطان مراد ولواء المعتصم، لبحث إمكانية تجنيد مسلحي هذه الفصائل في صفوف القوات الأوكرانية”.
واكتسب الخبر هذا أهمية إضافية بعد أخبار مماثلة تحدثت عن “قيام الولايات المتحدة بتدريب مقاتلين سابقين من عناصر داعش في قاعدة التنف الخاضعة لسيطرة الأميركيين في سوريا، تمهيداً لاستخدامهم في أنشطة التخريب والإرهاب في أوكرانيا، حيث سيتم نقلهم على الأرجح عبر أراضي بولندا”. كما تحدثت المعلومات عن “احتمالات نقل المرتزقة الأجانب من إدلب أيضاً إلى بولندا، ليتسلّلوا عبر حدودها إلى أوكرانيا، للقيام بأعمال إرهابية ضد القوات الروسية”.
مساعي الرئيس إردوغان للوساطة بين موسكو وكييف، وهو ما كرره خلال اتصاله الهاتفي مع الرئيس بوتين (الاحد)، لم تمنع في الوقت نفسه صهره وصاحب مصنع المسيّرات، سلجوق بيرقدار، من “استنكاره العنيف للاحتلال الروسي للقرم، موطن أشقائه الأتراك، معبّراً عن تأييده لأوكرانيا في حربها ضد روسيا”. وجاء استنكار بيرقدار هذا بعد المعلومات التي تحدثت عن نجاح القوات الروسية في إسقاط عدد كبير من الطائرات المسيّرة التي باعها بيرقدار لأوكرانيا العام الماضي، وستستمر أنقرة في بيعها، وفق تصريحات نائب وزير الخارجية التركي ياووز سليم كيران.
تناقضات الموقف التركي هذه تأتي من دون شك مع استمرار الغموض الذي يخيّم على سبب تجاهل الدول الغربية، وفي مقدمتها الحليف التقليدي أميركا، للرئيس إردوغان الذي لم يتصل به حتى الآن أحد من زعماء هذه الدول، واكتفى الرئيس بايدن بإرسال مساعدة وزير الخارجية شيرمان التي قالت في أنقرة: “لقد آن الأوان لتركيا لكي تتخلى عن صواريخ أس- 400 الروسية”.
ووضع الإهمال الغربي هذا أنقرة في وضع حرج، مع تناقض مصالحها، أولاً بين الطرفين المتحاربين روسيا وأوكرانيا، وثانياً بين العدوّين التقليديين روسيا وأميركا وحليفاتها.
ويفسّر ذلك عدم التزام أنقرة بالعقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا، مع استمرار مساعيها للوساطة بين موسكو وكييف، في محاولة من إردوغان لفرض نفسه على الآخرين، مستغّلاً لذلك علاقاته الشخصية ومصالحه المتشابكة مع بوتين وزيلينسكي. فإردوغان يعرف، ومهما كانت نتيجة الحرب، أنه المتضرر الأكبر من هذه الأحداث، ما دامت خياراته قد باتت محدودة، بسبب الموقف الروسي الذي يبدو أنه لن يتراجع إلى أن تتم تصفية كل الحسابات الروسية في أوكرانيا، وهو ما سينعكس سلباً على مجمل حسابات الرئيس إردوغان، ليس فقط على العلاقة مع موسكو وكييف، بل على مجمل سياساته الإقليمية والدولية، ما دامت موسكو طرفاً فيها، وفي مقدمة ذلك سوريا، وإدلب بالذات.
ودفع مثل هذه الوضع الصعب الرئيس إردوغان إلى التفكير أكثر من مرة قبل اتخاذ أي قرار لصالح الأطراف المتحاربين في أوكرانيا، وأؤلئك الذين تحوّلوا إلى طرف مباشر أو غير مباشر في هذه الحرب، من خلال إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا أو الوقوف إلى جانبها في العقوبات التي فرضتها على روسيا وبشكل جنوني. فوجد إردوغان نفسه مضطراً إلى عدم المشاركة في العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا (ستكون تركيا المتضرّر الأكبر منها)، كما أنه لم يغلق مجاله الجوي أمام الطيران الروسي، كما فعلت باقي الدول المجاورة لروسيا من الغرب، وهو ما دفع واشنطن إلى إرسال حاملة الطائرات النووية USS Harry S. Truman ترافقها المدمرة USS San Jacinto وخمس سفن حربية أخرى إلى شمال بحر إيجة، مقابل مضيق الدردنيل، لمواجهة التطورات المحتملة في الأزمة مع روسيا، والتصدي للسفن والطائرات الروسية في المنطقة في حال انفجر الوضع العسكري بالكامل.
ومع استنكار أنقرة، على لسان إردوغان ووزرائه، للعمليات العسكرية الروسية، ورفضه لهذه العمليات كما رفض سابقاً ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا في نيسان/ أبريل 2014، جاء القرار التركي للالتزام ببنود اتفاقية مونترو لعام 1936 ليخيّب آمال الدول الغربية وأوكرانيا الدولة المطلة على البحر الأسود. فالبنود الثلاثة (19-20-21) من الاتفاقية المذكورة تسمح للسفن الحربية التابعة للدول غير المشاطئة للبحر الأسود بالمرور من مضيقي الدردنيل والبوسفور، بشرط إشعار تركيا بالمرور قبل 15 يوماً، والبقاء في البحر الأسود لمدة لا تتجاوز 21 يوماً، وذلك في أوقات السلم، وعلى أن لا يتجاوز إجمالي حمولة السفن العسكرية التي ستمر عبر المضائق التركية 30 ألف طن وفي حالات استثنائية 45 ألف طن، وهو ما يعني أن حاملات الطائرات، وبسبب وزنها، لا يسمح لها بالمرور في المضائق، وهو حال الغواصات التي تستطيع دخول المضائق إذا قامت إحدى الدول المشاطئة بشرائها من دولة أخرى. وأما في حال نشوب الحرب، فتعترف الاتفاقية لأنقرة بحقها في إغلاق المضائق تماماً، وهو ما أعلنه وزير الخارجية جاويش أوغلو، في اليوم التالي للحرب، إذ قال “إنَّ بلاده ستمنع السفن الحربية للدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود من عبور مضيقي البوسفور والدردنيل”. وقد اعتبر البعض الاستثناء الَّذي أعلنه الوزير جاويش أوغلو بمثابة انحياز إلى روسيا، إذ قال إنَّ “المعاهدة لا تمنع عبور السفن الحربية العائدة إلى قواعدها في البحر الأسود”، ما يعني سماح أنقرة للسفن التابعة للأسطول الحربي الروسي والموجودة في طرطوس السورية بالعودة إلى قواعدها في البحر الأسود.
هذا الاستثناء دفع البعض إلى الحديث عن مساومة حساسة بين الرئيسين إردوغان وبوتين، اللذين تحدّثا للمرة الثانية خلال أسبوع، في محاولة من أنقرة لإقناع موسكو بضرورة وقف العمليات العسكرية في أوكرانيا، في الوقت الذي يعرف الجميع أن ما يهم إردوغان أيضاً هو مستقبل حساباته في سوريا، مع استمرار التحالف الاستراتيجي بين موسكو ودمشق.
دفع مثل هذا الحساب بعض الأوساط السياسية إلى الحديث عن مساعي إردوغان للاتفاق مع بوتين حول تفاصيل المرحلة القادمة في سوريا مع استمرار الأزمة الأوكرانية أو بعدها. يهدف هذا الاتفاق إلى إقناع الرئيس بوتين بالاستمرار في موقفه الحالي في سوريا، وعدم القيام بأيِّ عمل عسكري في إدلب أو أماكن وجود الجيش التركي عموماً، وهو ما قد يقرره بوتين في ضوء تطورات الموقف التركي في أوكرانيا.
ويريد إردوغان لحواره الإيجابي مع بوتين أن يضمن له التوازن بين الحضور التركي – الإيراني – الأميركي شرق الفرات أو غربه، إلى أن يتضح مصير الاتفاق النووي الإيراني بانعكاساته المحتملة على الحوار الإيراني – السعودي، ما سيؤثر في المعادلات الإقليمية، سواء سلباً أو ايجاباً.
ويفسر ذلك حديث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن علاقة بلاده بـ”إسرائيل”، إذ قال: “إننا لا ننظر إلى إسرائيل كعدو، بل ننظر إليها كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً”، وكأنَّ آل سعود ليسوا حلفاء للصهاينة حتى قبل قيام كيانهم المصطنع في فلسطين.
في النهاية، يبقى الرهان على نتائج مباحثات الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في أنقرة (9-10 آذار/مارس)، والتي لا شك في أنها ستتناول الوضع في سوريا بشقيه الروسي والإيراني (حزب الله بالضرورة)، مع محاولات أنقرة لاستغلال هذه النتائج الإيجابية لتحقيق المزيد من التوازن في علاقاتها الإقليمية، وبشكل خاص مواجهة التطورات المحتملة في الملف السوري روسياً وأميركياً وإسرائيلياً، وأخيراً عربياً، مع استمرار تآمر أنظمة الخليج على سوريا ولبنان والعراق، وعبر هذه الدول على إيران.