تحليلات سياسيةدراسات

إردوغان ينطلق في بيئةٍ جديدة

تحدياتٌ كثيرة ماثلة أمام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعضها جاء بحكم جاذبية البيئة الدولية التي أفرزت ضغوطاً، وبعضها الآخر يتمثل بوجود ضغوط شخصية على الرئيس المنتصر في الانتخابات.

انطلق مشروع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الجديد بعد انتخاباتٍ تاريخية لم تعرف تركيا مثيلاً لها. انتهت حفلة الرهانات الكبرى التي فتحت في البلاد، وعليها. وعادت اليوميات السياسية التركية إلى عاداتها في العقدين الأخيرين.

إردوغان في السلطة، والمعارضة في أماكن متفرقة. لقد كانت لحظة لقاء استثنائية لأحزاب المعارضة من مشارب مختلفة. لكن الهزيمة في الانتخابات تفرز الآن ظروفاً جديدة وضرورات يجب التعامل معها.

لكن المحطة الانتخابية المشتعلة التي تجاوزتها تركيا تركت ندوبها في جسد الحياة السياسية في البلاد، كما تركت شرخاً اجتماعياً عميقاً طال العلاقات بين الناس هناك، وهو يبدو اليوم التحدي الأكبر الذي سيواجه إردوغان، في ولايته الجديدة.

كثيرة هي التحديات الماثلة أمام الرئيس المنتصر. بعضها كان آتياً بحكم جاذبية البيئة الدولية التي أفرزت ضغوطاً على تركيا، وعليه هو شخصياً، وهو اللاعب الماهر على تباينات مصالح القوى الكبرى طوال مسيرته في الرئاسة، لا سيما خلال السنوات الأخيرة.

انتقل من موقفٍ إلى آخر، ومن خيار إلى آخر، ومن ساحةٍ إلى أخرى. وتنقل بين الحلفاء، والخصوم. لكن المحطة الانتخابية الأخيرة أظهرت له ضيق هوامش المناورة لأول مرةٍ منذ زمنٍ طويل. الآن، وبعد انتصاره، ها هو يواجه التحديات المعروفة، وتلك المستجدة بفعل ظروف التنافس الداخلي، كما بفعل ارتدادات انتصاره، وما يستجلبه من استجاباتٍ خارجية.

في الداخل، يبدو التحدي الأكبر هو استعادة اللحمة الوطنية، وإدارة الحكم من دون تشفٍ أو توسيع للشروخ القائمة. لكن ذلك لا يتوقع أن يكون سهلاً تماماً، إذ ستحاول أحزاب المعارضة وشخصياتها الطامحة، وربما حلفاؤها الخارجيون، إضعاف الولاية الرئاسية الجديدة.

إلى جانب ذلك، هناك الملف الاقتصادي الذي يمثل تحدياً شديد الحساسية للبيئة السياسية. الاقتصاد يتأثر بسرعة، وهو يشهد أزماتٍ متلاحقة منذ سنوات، مع نسبة تضخم تاريخية في تركيا تجاوزت 43%. تضاف إليها معطيات نقدية مقلقة، فالليرة التركية تتأرجح بين الحين والآخر، وتخسر من قيمتها، تاركةً أصحاب الأعمال والموظفين أمام انعكاسات تقلباتها. الأمر الذي يعيق الكثير من المعالجات الحكومية، ويفرغها من تأثيرها المفترض.

لعبة سعر العملة مرتبطة بصورةٍ أكيدة بمؤشرات الاقتصاد وما تظهره، لكنها مرتبطة أيضاً بعوامل خارجية، بعضها سياسي، كما يعلم كل متابعٍ مثابر لتفاعلات النظام الدولي، وآلية معاقبة الدول على خياراتها السياسية.

ومن الاقتصاد وغيره، يشكل ملف اللاجئين السوريين مشكلةً حقيقية لتركيا التي استقبلت واستقدمت الكثير منهم خلال العقد الماضي من عمر الأزمة السورية، وانخرطت في تلك الأزمة بصورةٍ كبيرة. لكن المرحلة تلك انتهت الآن، ولم يتبقَ منها سوى ملايين اللاجئين الذين تحوّل القسم الأكبر منهم إلى عبءٍ على البلاد، الأمر الذي جعل قضيتهم ملفاً مؤثراً من ملفات الانتخابات الأخيرة، والنقاش السياسي المفتوح في تركيا.

اليوم، كشف إردوغان عن توجهات ولايته الجديدة التي ستستمر لخمس سنوات، معلناً انطلاق بناء “قرن تركيا” في خطاب ألقاه في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة في إطار مراسم تنصيبه، عقب أدائه القسم الدستوري في البرلمان.

الرئيس التركي كان متسقاً مع مشروعه السابق للانتخابات، ومع خطابه الانتخابي، حين تحدث عن التغيير الدستوري الذي ستشهده البلاد، قائلاً إن تركيا “ستعزز ديمقراطيتها بدستورٍ جديد حر ومدني وشامل، وستتحرر من الدستور الحالي”، الذي وصفه بأنه “كان ثمرة انقلاب عسكري”.

عنوان المشروع الإردوغاني الجديد الذي أطلقه اليوم هو “قرن تركيا”. وفي كلمته المخصصة لإطلاق هذا المشروع في إطار مراسم تنصيب الرئيس للولاية الجديدة، وعد إردوغان بعدم تخييب آمال أبناء الشعب الذي منحه ثقته، وأعطى حزبه والتحالف الأوسع أصواته.

لكن الوعد المرتبط بالتحدي الأكبر الآن في تركيا، كان في قوله إنه سيحتضن “جميع أبناء الشعب بغض النظر عن آرائهم السياسية أو أصولهم أو عقائدهم أو طوائفهم”. هذا يجيب مبدئياً عن المخاوف من الانقسام السياسي في مرحلة ما بعد الانتخابات.

وعن المعارضة، قال إردوغان إنه عقب كل انتخابات “نمد يدنا للمعارضة لكنها ترفض مصافحتنا، نأمل أن تتخذ موقفاً مختلفاً هذه المرة” مشيراً إلى أنه يتطلع إلى تحلي المعارضة بحس المسؤولية في ما يتعلق بسلامة الديمقراطية التركية وأن تتصالح مع الإرادة الوطنية، بحسب تعبيره.

وقال في كلمة له في البرلمان “أنا كرئيس، أقسم بشرف الأمة التركية العظيمة ونزاهتها وتاريخها أن أحافظ على وجود الدولة واستقلالها.. وأن ألتزم بالدستور وسيادة القانون والديمقراطية ومبادئ وإصلاحات (مصطفى كمال) أتاتورك ومبادئ الجمهورية العلمانية”.

ومع توجهه عقب تنصيبه لزيارة ضريح مؤسس الجمهورية أتاتورك، كان الرئيس التركي يعطي جواباً على سؤال لطالما كان محل بحث ونقاش، خصوصاً في الآونة الأخيرة، بشأن مدى جدية توجهه إلى إلغاء الطابع العلماني لدستور البلاد، وتفضيل الدستور بمضامين إسلامية أكثر فأكثر.

لكن التشكيلة الحكومية التي أعلنها عقب مراسم التنصيب، كانت تشير أيضاً إلى توجهاتٍ جديدة للمرحلة المقبلة. أغلبية الوجوه التي اختارها إردوغان كانت جديدة على التشكيلة الحكومية، وإن لم تكن جديدةً على العمل العام بفروعه المختلفة، السياسية والدبلوماسية والأمنية.

اختيار رئيس المخابرات لمنصب وزير الخارجية كان لافتاً. في الأساس، التحديات الماثلة في الداخل والخارج لها أبعادٌ أمنيةٌ واضحة، وتحتاج إلى خبرة أمنية عميقة للتعامل معها. يستجيب الرئيس التركي لهذه المعطيات، ويوفر لها شخصيةً تحظى بسمعة أمنية، إلى جانب اختيار محمد شيمشك لمنصب وزير المالية، وهو أيضاً من أصحاب السمعة الجيدة في هذا المضمار خلال سنوات مسؤوليته بين عامي 2009 و2018.

أما التحديات الخارجية، فهي لا تقل قلقاً عن تلك الداخلية. الحرب في أوكرانيا والعلاقات المتوترة مع الغرب زادتا من إلحاح هذه القضايا على أنقرة، ووضعتا أمام الرئيس ضروراتٍ داهمة.

فتركيا دولة مؤثرة في محيطها، ويريد لها الرئيس في مشروعه الجديد أن تكون مؤثرةً أبعد من ذلك، في توازنات النظام العالمي الجديد الذي يبحث فيه عن مكانة جديدة، والذي تبدو دينامياته أكثر تقبلاً للقوى الإقليمية، فيما تبدو أيضاً القوى الكبرى بحاجةٍ أكبر إلى تركيا والقوى المماثلة لها في الحجم والقوة والحضور، والتاريخ.

العالم برمته يتغير الآن، هياكله السياسية تهتز وتنذر أو تبشر بضرورة تشكيل هياكل تحاكي التوازنات الجديدة الحقيقية. هياكله الاقتصادية والمالية مشكوك فيها أكثر من أي وقتٍ مضى، وتعالج موضعياً في كل دولةٍ على حدة.

حتى أمكن الحديث عن نظام اقتصادي عالمي غير مركزي، مع اتجاه متزايد للدول لانتهاج سياساتٍ وطنية غير معولمة وفق النموذج الذي عرفناه في العقود القليلة الماضية. تركيا وتحدياتها في قلب هذه التحولات، وإردوغان في قلب تركيا التي تتطلع إلى “قرن تركيا”.

الاستقطاب الحاد الذي رافق الأزمة الأوكرانية، وسيرافق بصورةٍ أقوى المواجهة الأميركية-الصينية في المستقبل، سيدفع بتركيا إلى خياراتٍ أفضلها صعب ويحتاج إلى التماسك. ربما هذا ما دفع بالأتراك إلى اختيار إبقاء إردوغان على الرغم من فشل بعض الخيارات السابقة، وتراكم الأزمات الاقتصادية. فرصيده لا يزال عاملاً مساعداً لحصوله على الثقة، خصوصاً من الأجيال التي اختارته في الجولة الأولى من الانتخابات. إشارته بين الجولتين إلى الفئة الشابة التي لا تعرف أين كانت تركيا وأين أصبحت، ولم تعايش المرحلة التي سبقت وصوله إلى السلطة، كانت شديدة الدلالة.

هو يستند إلى إرث قوي بناه خلال عقدين. لكن التحديات الآن كبيرة وفق كل المقاييس. وهو على الأقل لديه فرصة للنجاة بتركيا في هذه البيئة. تحولاته الإقليمية الأخيرة تشير إلى نضجٍ استراتيجي. مصالحات مع مصر وسوريا تطبخ على نارٍ معتدلة، وابتعاده عن محاصرة روسيا في المضائق، ورفضه الانضمام إلى العقوبات تبدو أيضاً مركبات لنهجٍ يميل إلى النجاة من الاستقطاب. لكن المهمة غير يسيرة.

المناكفات المستمرة مع “الناتو”، ورفضه انضمام السويد، وتأخيره انضمام فنلندا قبل ذلك، كلها مؤشرات على استجابة للتحولات الخارجية، واستجابة أخرى لضروراتٍ داخلية لا يستطيع التساهل بشأنها. فستوكهولم ترعى وفق رؤيته شخصياتٍ كردية مصنفة على لوائح الإرهاب التركية. هذا الرفض يغضب حلف شمال الأطلسي ورعاته، وقد يجلب لأنقرة المزيد من الضغوط، أو محاصرة دورها داخل الحلف.

لكنه في المقابل، موقف يعبر عن دور تركيا، ومن دونه ستكون دولةً تابعة ضمن تحالف عسكري واسع، على الرغم من كونها إحدى أكبر قواه العسكرية. فإلى جانب مسعاها لتعزيز دورها كقوة أساسية في “الناتو”، تريد أنقرة الاستجابة إلى حاجةٍ داخلية مصيرية تتعلق بالتهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني لأمنها ووحدتها، على الأقل هذا ما يراه إردوغان وحزبه، وأحزاب وقوى أخرى، بعضها وقف في صف المعارضة ضد الرئيس التركي في الانتخابات الأخيرة.

شارك الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ في المراسم الرئاسية، وهو جاء للقاء إردوغان لمحاولة إقناعه بالموافقة على ضم ستوكهولم إلى الحلف، لكن المفارقة تقول إنه في اليوم التالي للتنصيب وللقاء الرجلين، تشهد العاصمة السويدية نظاهرةً جديدة للكرد ضد إردوغان.

الموقف من روسيا والعقوبات عليها، وعدم إقفال المضائق في وجه سفنها، أيضاً يعدّ موقفاً شجاعاً لإردوغان وبلاده في ظل البيئة الدولية المتسمة بالاستقطاب الحاد هذه الأيام. موسكو سلّفت إردوغان كثيراً خلال الأزمة الأوكرانية. فهي أنجحت مساعيه لإتمام صفقة الحبوب.

وتعاونت معه في بناء مشروعات طاقة، ومدّته بالقوة النووية لتشغيلها، وفتحت له باب الصلح مع دمشق، وتساهلت مع دوره في قضية ناغورنو كاراباخ العالقة بين أرمينيا وآذربيجان. وهذه القضية الأخيرة استجاب إردوغان بصورةٍ استثنائية لها خلال حفل تنصيبه حين دعا إليه رئيس الوزراء الأرميني نيكون باشينيان، على الرغم من الحدود المقفلة منذ زمن طويل بين البلدين، والعلاقات الدبلوماسية غير الموجودة بينهما، والثقل الكبير للتاريخ المشترك.

حضور وزير الخارجية المصري بتكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي مراسم التنصيب كان أيضاً إشارة أخرى على التغييرات المنتظرة في السياسة الخارجية الإردوغانية الجديدة.

فتركيا كانت خلال السنوات الفائتة راعيةً لنشاط حركة الإخوان المسلمين في مصر، وفي عموم العالم العربي. وقد سعت إلى استغلال حراك “الربيع العربي” لتعميم تجربة الحركات الإسلامية الحليفة، وتمكينها من الحكم في الجنوب العربي، كامتدادٍ لنفوذ أنقرة المحكومة بحزب “العدالة والتنمية” ذي المنشأ الفكري المتسق مع الإخوان.

الآن، يتغير المشهد هناك أيضاً، فأنقرة تريد شيئاً مختلفاً من المستقبل. هي تريد مزيداً من الاستقرار والتعاون مع الدول العربية الكبرى، بدلاً من مزيدٍ من التأثير الجالب للضغوط والمشكلات ومشاعر الكراهية، واعتبارها مصدر توتر في تلك البلدان، خصوصاً أن أحداث “الربيع” استقرت على غير مشتهى الإخوانيين في تركيا وخارجها.

الآن، جاء دور المرونة في تغيير الوسائل والأهداف لمصلحة الاستقرار الاستراتيجي. لقد أظهرت السنة الأخيرة لإردوغان وعياً جديداً في تركيا وفي المنطقة، وربما في ما يخص العالم الجديد.

هناك دور آخر لتركيا في ليبيا، وفي أفريقيا عموماً، وهو بحاجةٍ أيضاً إلى تقويمٍ يوافق المشروع الجديد للسياسة الخارجية التركية مع هاكان فيدان. هناك يجب على الخارجية التركية أن تكون أكثر حذراً، في بلاد تختلط فيها الأدوار وتسود الفوضى وتكثر المصالح.

لن تنتهي الملفات التي تجلب القلق والفرص للرئيس التركي في ولايته الجديدة. لكنها ستحكي بصورةٍ أكيدة تاريخاً جديداً لتركيا، ولإردوغان.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى