إسرائيل حليفاً موضوعياً (ربيع بركات)

 

ربيع بركات

"على المرء أن يفترض أن التفاهمات التي سمحت بإجلاء نحو ستمئة جريح سوري لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية تسهل صوراً أخرى من التعاون. إن عملية من هذا النوع ترجح وجود منظومة من التواصل والعلاقات التي تم إنشاؤها مع المسلحين الثوار" (إيهود يعاري ـ معلق شؤون الشرق الأوسط في القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي في مقال نشر على موقع "معهد واشنطن للدراسات").
يتراوح عدد جرحى المعارضة السورية المسلحة الذين أُسعفوا في إسرائيل بين سبعمئة وألف وسبعمئة. والهامش الواسع للتقديرات هذا مبعثه تعدد المصادر خلال الشهر الأخير، وهي جميعاً إسرائيلية. تظهر مشاهد «الفيديو» والتحقيقات الصحافية المُنجزة اهتمام الجانب الإسرائيلي الخاص بهذه المسألة. وهي، وإن ظن البعض أنها دعائية بامتياز، إلا أن أبعادها العملية لا تخفى على متابع. ويمكن لمواكب وسائل الإعلام العبرية أن يلحظ، عبر كمّ المعلومات المسربة، أن الاتجاه العام إنما تجاوز مرحلة بناء الثقة مع بعض المجموعات العسكرية في الجنوب السوري ليصب اليوم في خانة التنسيق المباشر.
يتحمل النظام السوري، بحسب شخصيات سياسية معارضة، مسؤولية ما آلت إليه الأمور في الشطر الجنوبي من البلاد. ويذكّر بعضهم بتسليم أعداد من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية أنفسهم للجانب الإسرائيلي أثناء معارك "أيلول الأسود" العام 1970، حين اشتد عليهم قصف الجيش الأردني، واضطُرهم إلى اللجوء للعدو الذي ما كانوا حملوا السلاح لولاه أصلاً. لكن مقارنات كتلك تغفل لب المسألة: ثمة فارق بين الاضطرار والتنسيق الممنهج، وحين تُقطع المسافة بين الاثنين، يستدعي الأمر توقفاً.
ليست كل فصائل المعارضة المسلحة مستعدة للتنسيق مع القوات المحتلة للجولان. ثمة أكثر من ألف وخمسمئة فصيل، بحسب تقديرات أجهزة استخبارات غربية، وهي ذات منابت عقائدية واتجاهات سياسية متعددة. بعضها يستثمر عنف النظام لمقارنته بالجانب الإسرائيلي أو للقول إن الأول يتجاوز دموية الأخير بأشواط. وهو، تالياً، يجعل من إسرائيل معياراً لتصنيفاته، بما يؤكد أنه على النقيض منها. لكن التناقض في معظمه يبقى لفظياً، أقله حتى اللحظة، وهو لا يَعبُر البيانات المكتوبة بطبيعة الحال، بمعزل عن النوايا بين السطور.
يضاف إلى ما سلف حول فرضية التعاون المنظم في الجنوب السوري تكرارُ القصف الجوي الإسرائيلي لمواقع داخل البلاد على نحو لا يدع مجالاً للشك، ومن دون الحاجة إلى بذل جهد استثنائي للاستنتاج، أن تل أبيب غير راغبة بانقلاب الموزاين على الأرض. قادتها لم يخفوا ذلك أصلاً. وفي الحديث المكرر عن "الخطوط الحمراء"، واستطراداً عن منع عبور "السلاح الكاسر للتوازن" إلى "حزب الله"، شرح منطقي لاستمرار مسلسل الغارات الذي تدرك إسرائيل أنه لن يحرك ساكناً ما دام إيقاعه مضبوطاً.
والغارة الأخيرة على الحدود السورية اللبنانية ليست مقطوعة عن سياقٍ بأي حال من الأحوال. غير أنها قد تضيف إلى ما سلف على اعتبار أنها استهدفت مواقع لا تبعد كثيراً عن سير المعارك القائمة في جبال القلمون، وهو ما لم يكن الحال في السابق، حيث أن جل الاستهدافات تركز على العاصمة دمشق ومدينة اللاذقية ومحيطهما البعيدين نسبياً عن مناطق النزاع المفتوح.
وفي حال أريد من الغارة الأخيرة إيصال رسالة مفادها أن التقدم نحو يبرود تجاوز لواحد من الخطوط الحمراء، فهذا يعني أن الجانب الإسرائيلي معني ببقاء الفجوة المصدّرة للسيارات المفخخة إلى الداخل اللبناني مفتوحة. وهذا بطبيعة الحال يسمح بمزيد الاضطراب في لبنان عموماً (بما يبقي على الهوامش الواسعة فيه للحروب الرديفة) والاستنزاف لبيئة "حزب الله" بشكل أخص، علماً أن نتائج الاستهداف يستبعد أن تكون ذات أثر استراتيجي، ما لم يتسع نطاقها وتتكثف.
بيد أن الإفادة من التدخل الإسرائيلي في الحرب السورية قضية تتجاوز ترتيباتٍ على الأرض أو ولوجاً ظرفياً لميدان المعركة وفق حسابات عسكرية هنا أو هناك. فهي ترتبط بتحول في الوعي العام حيال القضايا الملحة وأولوياتها، وهي التي أعيد ترتيبها نتيجة عاملين رئيسيين، أولهما يتصل بدفع خارجي دؤوب في هذا الاتجاه على مدى عقود، وثانيهما بإسهام قل نظيره من أنظمة الأمن الحديدية في طول المنطقة وعرضها.
كما أن مسألة العلاقة مع إسرائيل ومستقبلها ليسا طارئين على الخطاب السياسي لبعض قوى المعارضة. فأثناء الأشهر التالية لاندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، وبعيد تحولها إلى العسكرة بتشجيع خارجي ودفع لا مباشر أنتجه عنف النظام، تبرعت شخصيات نُصبت من الخارج و"دُفع" قسم كبير من الداخل عبر الضخ الإعلامي الممنهج إلى تبنيها ممثلة شرعية له، بتقديم كمِّ ملحوظ من "التطمينات" حيال نواياها المستقبلية تجاه تل أبيب. هكذا مثلاً، شرعت الناطقة الرسمية السابقة باسم "المجلس الوطني السوري" بسمة القضماني إلى شرح "حاجة العرب إلى وجود إسرائيل"، بعد بضعة أشهر من نيل مجلسها صكاً بالحديث باسم متظاهري الداخل (حديثها الإعلامي جاء بعيد "جمعة المجلس الوطني يمثلني"، عنوان الحراك الداخلي للأسبوع الأول من أكتوبر 2011).
يبقى القول إن تداخل العامل الإسرائيلي مع الحدث السوري مرشح لمزيد من الظهور مستقبلاً. أما حاضراً، فيمكن القول إن إسرائيل حليف موضوعي للحرب السورية التي دمرت الدولة أكثر مما أنهكت النظام، ولكل من يصرّ على تمديد النزاع المسلح، ويرفض التسوية من حيث المبدأ. وهذا لا يستثني رؤوساً حامية في أي من المعسكرين.
لكن الدلالة الأقل مواربة لكل ما سلف، أن إسرائيل، أقله في اللحظة الراهنة، حليفٌ موضوعي لقسم واسع من قوى المعارضة المسلحة في سوريا.
هذه خلاصةٌ بقدر ما هي مقدمة لنقاش يتناول فهم البعض للعلاقة مع الدولة العبرية مستقبلاً. والأمر الأخير يتجاوز الموقف السياسي بدلالاته الآنية ليتناول مساحة أعمق من الوعي بالذات وبـ"الآخر"، عدواً كان أم خصماً أم صديقاً أم حليفاً.
النقاش الحقيقي في هذه المسألة، بعيداً عن فقاعات الإعلام، يبدأ من هنا.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى