إلانا همرمن… مشاهدات (مؤلمة) من فلسطين

 

تعتبر إلانا همرمن ناشطة سياسية «إسرائيلية» معارضة للاحتلال. اعتمدت في كتابها «باب صغير في الجدار الخرساني: قصة تحدي امرأة منفردة لحدود إسرائيل/ فلسطين» (منشورات جامعة شيكاغو ــ 2019) على مشاهداتها خلال تنقلها بين «الضفة» و«قطاع غزة» والقدس الشرقية، وهو سرد قصصي أقرب إلى المغامرة ومبنيّ على زياراتها الميدانية للقرى والبلدات بعد دراستها للغة العربية وإتقانها، ويروي الواقع والحياة اليومية الصعبة للفلسطينيين، مع تداخل للمشاعر التي يمكن رصدها عندما يزور الفلسطيني الساحل الفلسطيني المحتل لأول مرة، ومعاناته للتكيف مع الإجراءات التي يقوم بها الاحتلال من إغلاق وتضييق على «الضفة الغربية» و«قطاع غزة».

يضم المؤلف فصلاً تمهيدياً كاملاً مقسماً إلى قسمين: الأول عن رحلة الكاتبة إلى نيوزيلاندا «أرض الماوريين»، وهم السكان الأصليون لنيوزيلاندا، والقسم الثاني عن «أرض الفلسطينيين». إذ ترتبط عناوينه بثقافة الكاتبة كونها مترجمة أولاً وناشطة في مجال حقوق الإنسان ثانياً، فهي لا تتحدث في السياسة على نحو مباشر ولا تنتقد، إنما ترصد الصورة كما هي، وتوضح أن الحدود التي تم تحديدها لا يمكن رؤيتها في الحياة اليومية، إذ لا يمكن للفلسطينيين أو الزائرين لفلسطين الشعور بتقسيم المناطق «أ» و«ب» و«ج» مثلاً، تلك الحدود التي رسمتها الاتفاقيات وتتجاوزها علاقات الفلسطينيين بعضهم ببعض. الفصل الثاني عن «الضفة الغربية» مقسم إلى أربعة أقسام، كل واحد منها يروي حكاية مختلفة، ويرصد ثقافة وعادات ولهجات القرى والبلدات، والحدود العسكرية التي وضعت على مداخلها لفصلها عن بعضها وعن محيطها الأساس. والفصل الثالث مخصص لـ «قطاع غزة»، ويحوي عناوين كثيرة. صدر المؤلف لأول مرة في عام 2016 بالعبرية «الإسرائيلية»، ونقلته مطابع شيكاغو للإنكليزية عام 2019.

كاتب مقدمة العمل، دافيد شولْمَن، قال: هناك بشر مشكّلون بطريقة أنهم غير قادرين على رؤية أو حتى معرفة، ظلم ومعاناة بشر آخرين؛ بعضهم، وربما أغلبيتهم، سوف يديرون ظهورهم بكل بساطة مثقلين بالشعور بدرجات مختلفة من الخجل، وبعضهم يشعر بأن عليه العمل ضد ذلك (وأضيف هنا: وهناك أشخاص، والمطبعون منهم، يتلذّذون برؤية معاناة الآخرين). أما أسباب تلك العواطف المختلفة، فتبقى مجهولة، لكن لكل ناشط قصته المختلفة، وهذه قصة صاحبة هذا المؤلف وهي كاتبة وناشرة ومترجمة من الألمانية والفرنسية وصاحبة عمود في صحيفة «هآرتس»، التي تستعرض فيها زياراتها لـ«الضفة الغربية» و«قطاع غزة». عندما تنتقل للحديث عن الأخير، فإنها، هي «اليهودية» الألمانية الجذور والانتماء، تشبهه بمعسكر اعتقال.

هي لا تكتب لـ «الإسرائيليين» وإنما عن الفلسطينيين المحاصرين الذي تعرفت إليهم خلال زياراتها العديدة للأراضي الفلسطينية المحتلة في عام نكبتنا الثانية عام 1967، وعن تطلعهم للعيش بكرامة في وطنهم، وعن قصصهم السريالية الأقرب إلى الكافكية وفق تعبير الكاتبة، وعن دموعهم وعن الإذلال الذي يتعرضون له في حواجز قوات العدو وبيروقراطيته. الكاتبة حرصت على ألا يكون مؤلفها سياسياً، إذ رغبت في أن يكون عابراً للحدود، مخاطباً وجدان القراء، ورغبة إلى إزالة الحدود بين فلسطين و«إسرائيل». في الوقت نفسه، فإنها تحاول مساعدة الفلسطينيين الباحثين عن عمل في التسلل، وحتى إخفاء بعضهم في صندوق سيارتها.

تنتقل الكاتبة، التي سجلت عملها بصيغة المفرد الغائب، إلى فصل خاص بالأسرى الفلسطينيين في سجون العدو استهلّته باقتباس من سفر جامعة 3: 16 الذي يقول «وأيضاً رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور»، تتحدث فيه عن قصة الأسرى غير المرئيين وعن الأسير جميل وعن الأسير عدنان عبدالله الذي نشأ في مخيم الدهيشة للاجئين وأصيب بجروح خطيرة عندما أطلق جنود النار عليه في تظاهرة عندما كان في الخامسة عشرة من عمره وقضى أحد عشر عاماً في سجون العدو بتهم مختلفة، فتقول: في عام 2008 حاولت تسليم نظارات إلى أحد السجناء، عدنان عبدالله، الذي كسرت السابقة في أثناء حبسه. تقدّمت بطلب كتابي، لكن سلطات السجن رفضته؛ فأرسلت النظارات عبر موفد خاص، لكنها لم تصل إلى السجين؛ سلمتها شخصياً إلى محاميه، الذي قيل له إنه كان يجب على السجين تقديم «طلب خطي خاص». وأخيراً أحيل المحامي والأسير ومرسلة النظارات إلى المحكمة عندما تمت مراجعة اعتقال عدنان، لكنه «مُنع» من استقبالهم. هذا مؤلف لا يسمح لنا بأن نكون سلبيين. إنه صفعة على الوجه، ودفقة ضرورية من الماء البارد لإيقاظ ما هو إنساني فينا.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى