نوافذ

إلى غريقٍ رافضٍ للنّجاة

اليمامة كوسى

ضبابٌ كثيفٌ حطّ رحاله على عتبةِ الأفق، أشجارُ سروٍ اختفت قِممُها، وقطرات مطرٍ رشيقة كانت تعزفُ مقطوعةً حزينة على مسرحِ بحيرةٍ راكدة.

هناك؛ في ذلك المكان البعيد؛ أخذت روحهُ تغرق ببطء دون أن يستنجد.

مدّت إليه بيدها؛ لم يمسكها. نادته باسمه طويلاً؛ لم يجب. صرخت بأعلى صوتها، لم يسمع. بكت، استجدت، غنّت، حاولت أن تجعلهُ يلتفت ولو للحظة، لكن دون جدوى. كانت كلُّ محاولاتها تتلاشى بسرعةٍ كذرّات رملٍ بعثرتها الرياح.

لم تكن قد فكّرت يوماً بأنّها قد تعجزُ عن أداءِ ما تبرعُ فيه، كان الجميع يتغنّى بقدرتها على إنقاذهم في كلّ مرّة، حتّى أنّ هناك حكايةً تناقلتها الألسنة بأنّ فتاةً كانت قد تمكّنت من النجاة بمجرّد رؤيتها تمشي على أطراف البحيرة، لقد أنقَذَتها دون أن تدري!

أعياها التفكير في سبب عدم مدّه ليده كي تتمكّن من إنقاذه، أتُراه يفكر بأن الغرق  هو مصيره المحتوم وبأنّ أية محاولة للنجاة هي عبثيّة وفاشلة؟!

أم تراهُ يرفض المساعدة لأنه يشعرُ بأنّهُ لا يستحقّها، وبأنّ الغرق هو النهاية العادلة لمَن كان مثله؟!

هل يمكن لغريقٍ أن يرفض طوق النجاة الممدود إليه لتفكيره بأن أحداً مثلهُ لم يكن عليه الغرق من الأساس؟!

فكّرت باحتمالات أخرى أكثر ارتباطاً بجماله وروعته، هل ملّ التحليق يا ترى أم أنّه يشعرُ بأنّ هناك مَن احتال عليه وهو نائمٌ وصنع لهُ جناحين متجاهلاً رغبتهُ في أن يكون بلا أجنحة؟!

لكن ماذا إن كان هناك وزناً ثقيلاً معلّقاً في كاحله يشدّه نحو القاع وهي لا تستطيع أن تراه؟!

ماذا إن كان يريد الغرق ويحبُّ تجربته كوسيلةٍ للهروبِ من هواءِ اليابسةِ الثقيل على رئتيه؟!  هل يمكن للإنسان أن يجد راحةً في الألم عندما يُحاصَرُ بمشاعر خانقة كالرفض أو الفشل؟!

ماذا إن كان يريد أن يُغرِقَ نفسهُ كنوع من الاختبارات الصعبة لحدود الحبّ والدعم الذي يمكن أن تقدِّمهُ إليه؟!

وماذا عن العكس، ماذا إن كان يريد أن يقول لها بأنّها رغم نجاحها في إنقاذ الجميع ستفشل في إنقاذه، وبأنّهُ سيكون استثناءها الأقسى والأشدّ إيلاماً؟! هل يمكن أن يكون ذلك نوعاً من الانتقام غير الواعي لشعوره يوماً ما بالخذلان أو بالكره أو بالاستغباء أو بالتجاهل؟!

بعيداً عن الأسباب؛ كانت تفكّرُ بأنّ الغرقى لا يُلامون على غرقهم، ولا على تفكيرهم أثناء غرقهم، لا يُلامون على ضعفهم وقلّة حيلتهم، لا يُلامون على الأثقال التي تجبرهم أن يكونوا بما هم فيه.

عندما يرى المرء أحداً يغرقُ فإنّ الخيار الأول والأكثر بديهيّةً هو محاولة إنقاذه، وأمّا إن كان أحداً ليس كأيّ أحد، أحداً من ذلك النّوع الذي كان ذات يوم يغوصُ إلى أعمق الأعماق ليستكشفها؛ لا لتُغرِقَهُ. يُحلّق إلى أبعدِ النجوم ليملكها هو؛ لا ليبيعها لأحد. أحداً كان يغرسُ يديه في أخشن الحفر ليجدَ ترياقاً لعصفوره مريضٍ؛ لا ليدفنه هناك.

إن كان ذلك هو مَن يغرقُ فإنّها ستتركُ يدها ممدودةً إليه إلى الأبد، ستظلُّ تناديه وتغنّي له، ستظلّ تحدّثه عن مدى اشتياقها للمسةِ يده ولصوته ولضَحِكِه، ستظلّ تستمعُ لفصاحةِ صمته، ولخشونةِ عُنْدِه. ستخبره بأنّها لا تشعرُ باتّزان الأرض إلّا عندما يمشي عليها، وبأنّها لن تجبرَه أو تطالبه بالتحليق كما لم تفعل يوماً، فإنّ روحهُ في عينيها تبقى نفسُها سواء مشى، أم حلّق، أم غَرِق.

إن كان ذلك الجدار العازل بينهما سيبقى على ما هو عليه، فإنه لن يكون بأثبت منها، ستبقى تطرق عليه بيدها الأخرى إلى أن تكسِره، لا شيء في هذه الحياة مُستثنىً من الكسر، بما في ذلك نحن.

نحنُ مُعرّضون للكسر وللغرق ولليأس وللحزن وللبؤس وللتعب ولكلّ ما يمكن أن يرهق أرواحنا إلى الحدّ الذي نجدُها فيه تصلُ لدرجة متقدمة من الاستسلام ترفضُ فيه جميع المحاولات التي تُمَدّ إليها لتنجو.

لكن هل ذلك سيمنعُ مَن يُحبّنا من المحاولة؟ لا.

هل سيملّ أو سيتعب؟ لا.

إن أنقَذنا هذه المرّة وعُدنا للغرق مجدّداً؛ هل سيتركنا ويمضي؟ بالتأكيد لا.

مَن يُحبّنا سيُنقذنا مرّة ومرّتين وألف.

كانت تُناجيه بكلّ تلك الكلمات وتعلم بأنّه سيسمعها بقلبه كما كان يفعل دائماً. وعلى مسرحِ ذات البحيرة الراكدة، على إيقاع المقطوعة الحزينة نفسها، أيقنت بأنّ القاعدة الأهم في الإنقاذ غير صحيحة أبداً، فلا بأس في أن يغرق المرء عند محاولته إنقاذ مَن يُحِبّ.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى