طوق النجاة أم حبل المشنقة؟

من حق اللبنانيين أن يحلموا بالخلاص.

هذا المستحيل أفضل من الاستسلام لليأس.

هذا الوهم جميل، ويقلل من حظوظ البشاعة، في احتلال النفوس.

في يومياتهم، سؤال عن الغد. الأمس القريب متورط في القتل والانتقام والتهديد والثأر. الأمس كله، من زمن اندلاع النار في المشرق، يتدفق على اللبنانيين، أياماً سوداً. حتى احتل السواد أفق اليوم والمستقبل.

من حق اللبنانيين أن يحلموا بخلاص ما. لا يطمحون إلى خلاص دولتهم ومجتمعهم ومؤسساتهم. فهذه غايات لا طاقة لهم على تنكبها. يودون خلاصاً صغيراً، كأن يكون هذا السيئ المقيم، هو المنتهى. وأن تتوافر لهم فرص النجاة مما حصل للأسرى من الجنود اللبنانيين. أن يتوافر للجنود حل يقيهم سكين الذبح. يرغبون في ألا تتمدد حالة عرسال الإمارة، أو عرسال الأسيرة، إلى عكار المفتوحة على احتمالات التشبه بريادة عرسال، وإلى طرابلس التي توشك أن تحمل «الراية السوداء».

هذا الوهم كاف ليتدبر اللبنانيون بقلق أقل، كل يوم بيومه، فلا يقعوا فريسة خطف وخطف مضاد، إذا لم يتدارك، دخل اللبنانيون في الفتنة. فتتقطع أوصال لبنان: تقفل الطرق وتقطع الشرايين الحيوية، ويتحول اللبنانيون إلى أسرى المعابر والخوف الذي يصاحب التدقيق في الهوية والطائفة والمذهب. يخشى اللبنانيون أن لا تنجح الوساطة القطرية، وأن تفشل المحاولة التركية، والشكوك حولهما كثيرة. ويخافون أن تظل السلطة أسيرة المطالب المبرمة التي تعلنها «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش». فالأمرة، حتى الآن، هي للخاطفين. والدولة مخطوفة القرار، والأمرة لم يؤمن لها النصاب السياسي المذهبي.

يخشى اللبنانيون، وفي يد الخاطفين ما يقارب الستة والعشرين جندياً ودركياً، أن يستمر مسلسل الذبح والإعدام. إن إعدام ثلاثة قطع أوصال لبنان. فصل البقاع عن لبنان. قسّم اللبنانيين بين هذا وذاك، كتلك التي حدثت في «فتنة الستين»، وفتنة الحروب اللبنانية. يرتعبون من شريط متوقع، إذا فشلت وسائط المتوسطين، ترتكب «داعش» فيه قتلاً كل أسبوع. يا إلهي. نفقد أعز ما لدينا، نتلوّع كالأهالي الثكالى. يتدفق المفجوعون على الطرق. ليس لديهم وسيلة أخرى. الصلاة لم تعد تنفع. لعل الامتثال إلى أوامر «داعش» و«النصرة»، يصبح مبرراً لإنقاذ ما تبقى.

عندها، لا تبقى طرق. تغيب الدولة. تتحصن المذاهب. يندلق المجتمع اللبناني بكل تناقضاته. الجيش يحار بين الثكنة والجبهة. إنها الحرب، وستكون بويلات جديدة، غير مسبوقة.

لا إشارة إيجابية حتى اللحظة من أطراف السلطة اللبنانية، والقوى المتعسكرة في محاورها ومذاهبها ومواقعها القديمة، كأن شيئاً لم يكن، كأن «داعش» ليست على الأبواب وداخلها. يتصرفون بلغة تعود إلى ما بعد استشهاد الرئيس الحريري وما قبل وما بين وما بعد عدوان تموز و«الحكومة البتراء». كأن شيئاً لم يكن، كأن شيئاً لم يتغير. كأن بلاداً حولنا، تعيش ما بعد «الربيع العربي» المنتصر… لا كلمة سواء بين «14 آذار» و«8 آذار». العالم كله، من واشنطن إلى طهران ودمشق والسعودية، غيّر من مواقعه ومواقفه وسياساته، ويتعامل مع حدث نشوء «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على أنه حدث خطير، وخطره غير مسبوق.

العالم، تعقّل قليلاً. دول الخليج استدركت وتراجعت وانخرطت في القتال، مع من كانوا منها أو من ظلالها. السعودية تصافح إيران، ترحب على مضض بالحوثيين. المهم أن تحذف «الاخوان» وتطيح «داعش». إيران تغيّرت. روحاني قطب الرحى في الأمم المتحدة. «داعش» وحّدت وقرّبت بين الخصوم والأعداء… إلا في لبنان.

المعزوفة اللبنانية هي هي. كل فريق يحمّل خصمه مسؤولية ما آلت إليه الأمور. سياسة الإدانة المتبادلة مستمرة، لم تحذف بعد، أمام جسامة مسؤولية مواجهة «داعش» و«النصرة» في الداخل اللبناني. «14 آذار» تقول: «الحق على حزب الله هو الذي جرّ «داعش» إلى لبنان. ذهب ليقاتلها في سوريا، فحضرت إليه وإلينا في لبنان… لا يلتفت هؤلاء إلى أن هذا صار من الماضي، والحاضر بكل ما فيه، ليس نتيجة ذلك التدخل. ما حصل مع «داعش» له خصوصيته الشديدة، وهو جديد وطاغ وعام، وصل إلى الإيزيديين والمسيحيين والأكراد السنة والشيعة في العراق والشام، من دون أن يكون لـ«حزب الله» وجود.

فلنفرض أن ذهابه كان لدعم النظام السوري. وهو كذلك. لنفرض أن فريقاً في لبنان هو ضد النظام، ورأى أن من مصلحته وواجبه دعم المعارضة التي تقاتل النظام، وبعض هذه المعارضة كان من صلب «النصرة» (كانت «النصرة» تحظى بلقب الاعتدال). كل هذا صار من الماضي. «حزب الله» منخرط اليوم في قتال «داعش» أولاً. الأولوية لمقاتلة التكفيريين. ومن الواضح للعيان، أن خطر «داعش» هو أشد خطورة من النظام. ويفوق خطر إسرائيل. الوقائع تثبت ذلك: طلب الاستعانة بأميركا جاء من دول متنابذة، من قوى مشتبكة في الإقليم. وهذا ما يفسر حاجة الجميع إلى مواجهة الخطر الأعظم المتمثل في الإرهاب التكفيري الذي يأسر جنود لبنان، ويفتك بهم، ويهدد لبنان بعظائم الأمور.

في هذا المستوى، أيجوز استمرار تحميل «حزب الله» المسؤولية، تهرباً من تحمل مسؤولية مواجهة الخطر الداهم معاً؟ أيجوز اعتبار أهل السنّة في لبنان مع «داعش»، بالدليل المذهبي، وبالقرينة التي تقول، ان هؤلاء دعموا المعارضة السورية، وهذا ما جنته أيديهم؟

ان استمرار هذا الجدل يفتح أبواب الجحيم ويدفعنا إليها. وبسبب ذلك، نترنح في ملف مخيمات النازحين، في مبدأ التفاوض أو عدمه، في ملف الجيش والإذن المعطى له والذي يقف عند حدود الحساسيات الطائفية والمذهبية المناطقية.

برغم ذلك كله، من حق اللبنانيين أن يحلموا بالخلاص. والطريق ليس صعباً. الخريطة المحتملة للخلاص محددة بما يلي:

لقاء بين السيد حسن نصر الله وسعد الحريري، والاتفاق على تنحية الخلافات لا حلها. كل فريق حر في أن يكون مع النظام أو ضده. الاتفاق يكون على ضرورة محاربة «داعش» معاً. وهذا يقتضي إعطاء صيغة عملانية، لثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» في مواجهة «داعش».

من حق اللبنانيين أن يحلموا بالخلاص.

فهل يحصل الاتفاق وتبنى استراتيجية على ذلك؟

ان لم يكن ذلك كذلك، فلن نكون.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى