نوافذ

إلى مَن علّمني زراعة الحبّ

اليمامة كوسى

إليكَ، يا مَن أتهيّبُ كلّما نويتُ الكتابةَ عنك، فيا لصغرِ الحروف، ويا لضَعفي أمامَك. تراني كلّما كتبتُ حرفاً ترسّخت في عقلي أكثر فأكثر الحقيقة الّتي تقول بأن عمراً كاملاً لن يكفيني.

لكنني، يا أبي، أحبّ الحديث عنك، والحديث إليك. ولتضعْ اللّغة العربيّة ما تشاءُ من حروف الجرّ بعد كلمة “الحديث”، فأنا لا أملّ ولا أرتوي. أكتب إليكَ الآن وأنا أعلمُ بأنّك ستُصغي إليّ كما كنتَ تفعل دائماً. فيا اللّه، كم أصغيت إليّ، يا أبي!

أسئلتي، أفكاري، كتاباتي، أغانيّ، قصائدي، مزاحي، هواجسي، أحزاني؛ جميعُها كنت تصغي إليها باهتمامٍ بالغٍ. أتساءلُ معه الآن كيف يمكن للزجاجِ بين عَقْلَي طفلٍ وبالغٍ أن يكون شفيفاً إلى ذلك الحدّ، وكيف يمكن للمرء أن يعطيَ طفلاً يقفُ أمامه كلّ ذلك الحبّ والثّقة والأمان ليستطيعَ الحديث إليه وكأنّه بطل تاريخي يلقي خطاباً من على صهوة جواده؟!

علّمتني كيف أحبّ، وكيف أزرع الحبّ أينما ذهبت. فلم يكن للكرهِ مكان في قواميسك أبداً. وأنتَ الّذي كنت تخبرنا دائماً بأنّه حتى في نفس أكثر المخلوقات شرّاً ثمّة خير، وأنّه في أحلك الظروف ثمّة نور، وأنّه في أسوأ الأحداث ثمّة حكمة.

علّمتني بأنّ العقل هو بوصلتنا الوحيدة لنعبر هذا الكون ونحن مدركين لأسمى وأعمق معانيه. ولهذا لم أخف للحظة أن أقول أو أفعل ما يمليه عليّ عقلي، وأنت مَن رسمت فيه خريطةَ الطريق إلى الحياة منذ الصّغر ثمّ تركتَ لهُ الحريّة المطلقة بأن يُبحر وفق المسارات التي يحبّ ويرغب.

ربما تتوالى الأعوامُ، يا أبتي، وتتوالى الأحداث، ويتوالى النّاس؛ لكنّك تبقى أنتَ أنتْ، الثّابتُ الوحيد في هذا العالم المتغيّر. ويا لمجدِ وخلودِ الثّابتين!

وأمّا أنا فلا أزالُ تلك الطّفلة التي كنتَ تحملُها بين ذراعيكَ الحنونتين وتطوفُ بها الشّوارع والأروقة وأنتَ تُحدّثها عن العالم وتاريخه، تُلقّنها أشعار المتنبّي ودرويش، وتغنّي لها كثيراً.

إن سُئِلَتْ تلك الطّفلةُ عن الفرح ستقول: ضحكتُك. وعن النّجاح ستقول: نظرةَ الافتخار في عينَيك. وعن أثمنِ عطايا الحياة إليها ستقول: أنتْ.

في عيدك الستين، تلك النّجمة الصّغيرة في سمائِك اللّامحدودة تُهديكَ عمرَها لا بريقَها وحسب.

كلّ عام وأنتَ الوحيدُ الذي سأظلّ أحملُ أبديّته في قلبي ما حييت.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى