محمّد بن راشد وخالد الفيصل أنموذجاً في الإبداعيّة المُتجاوِزة للشعر النبْطيّ

ظلّت الثقافة في دول مجلس التعاون الخليجيّ وإلى وقتٍ ليس ببعيد، شفويّة في معظمها، تعتمد الشعر الشعبيّ والأقصوصة الشعبيّة لغةَ تخاطبٍ اجتماعيّ وإبداعيّ، تؤثِّر في نفوس الناس، وفي مجرى حياتهم اليوميّة، ولاسيّما عندما كانوا يتحلّقون في المَجالس حول الشعراء والرواة الشعبيّين، وهُم يُفضون بما عندهم من كَلَمٍ جميلٍ يكشف استبطانات المخيّلة الشعبيّة الثرّة ورؤاها وسحر انخطافها وومضاتها الشعريّة.

وكانت تلكم المَجالِس مثل مدارس، لها هَيبتها وتقاليدها وأعرافها، وعلى الجميع أن يلتزم بها، ولا يُخطىء بنود تعاليمها، مهما تباينت توجّهاتها.

وكان الشعر بوجهَيه: الفصيح والعاميّ أو النبطيّ، سيّد هذه المَجالس وعنوانها الرئيس، وكانت محاورات بين الشعراء، ينتصر لها هذا الجمع أو ذاك من الجلّاس المُستأنسين والمُندغمين بأصول اللّعبة وقواعدها وتداعياتها التنافسيّة.

وكم كان يطيب لي من وقتٍ إلى آخر في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، والتي أقمت فيها ما يزيد على 17 سنة، الانخراط في صفوف شعراء ورواة شعبيّين (وخصوصاً في إمارة عجمان) كانوا نجوم آخر ما تبقّى من مَجالس سمر شعريّة شعبيّة لا نحبّ لها أن تغيب، أوّلاً لظرف أولئك الشعراء والرواة ونباهتهم وحلاوة مَعشرهم، وثانياً للتأمّل في بيان ما يقولونه من إبداعٍ شعريّ بالعاميّة الإماراتيّة أو الخليجيّة بعامّة، وهو إبداع لدى البعض من كبار نقّاد العرب أمثال: د.عزّ الدّين إسماعيل ود. إحسان عبّاس وجلال فاروق الشريف ود. حسين مروّه، أجمل وأعمق بكثير من الإبداع الشعريّ المميّز الذي نقرأه بالفصحى، إنْ على مستوى القصيدة الكلاسيكيّة المُحدثة أو قصيدة التفعيلة، أو حتّى قصيدة النثر.

وأكثر ما كان يذهلني بالشعراء والرواة الإماراتيّين، قدرتهم الهائلة على حفْظ الشعر والتداوُل فيه، هكذا بيسر وسهولة، وبلا أخطاء أو التواءات ألسُنيّة. حدّثني المرحوم سيف بن رحمة الشامسي، وهو من شعراء النبط في الإمارات، قائلاً إنّ أبا عبد الرّحمن الجرمن من إمارة عجمان، كان يستظهر ديوان المتنبّي عن ظهر قلب، ومعه أيضاً قصائد عديدة من ديوان أبي تمّام؛ وهو الأقدر بين رواة الشعر في الإمارات على الحفظ والتداول الشعريَّين. وإذا ما ذُكر أمامه، مثلاً، مُفتتح أيّ بيت من قصيدة مشهورة أو غير مشهورة للمتنبّي، تراه يجيب بسرعة إنّ هذا البيت رقمه كذا من عنوان القصيدة التي مطلعها كذا والتي قيلت في مناسبة كذا…إلخ.

وكذلك كان الجرمن يحفظ الكثير من أشعار الماجدي بن ضاهر (1781 – 1871)، أحد أكبر رموز شعر النبط، ليس في دولة الإمارات فقط، وإنّما على مستوى الجزيرة العربيّة برمّتها.

وقد كان من حسن حظّي أنّني التقيت بأبي عبد الرحمن الجرمن مرّات عدّة لاحقاً، حتّى صار الرجل بمثابة صديق لي. كان ذلك في مجالس الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس: حيناً في إمارة دبي، وحيناً آخر في واحة الذيد وأحياناً في مدينة خورفكان (وكلاهما من أعمال إمارة الشارقة)؛ وكان الرجل بالفعل موسوعة شعريّة من طرازٍ نادرٍ عجيب، وفي كلا الاتّجاهين الشعريَّين التوأمَين: الفصيح والعامي. كما كانت لديه آراء نقديّة حصيفة وعميقة في العديد من تجارب الشعراء/ الرموز في التراث الشعري العربي القديم والمُعاصِر، إن على مستوى شعر النبط أو الشعر الكلاسيكي. وكم كان يردّد أمامي هذا البيت للماجدي بن ظاهر يستطيب فيه الموت والدفن في ربوع منطقة الخرّان في إمارة رأس الخيمة، التي هي مَوطن الشاعر “المايدي” ومسقط رأسه:
ما بين سيح أو ساحلٍ منقادي هناك وين العين طاب منامها

كما كان الجرمن يتغنّى أمامي بقصيدة “المايدي” التي مطلعها:

يقول المايدي أبيات شعر يداد الجيل عدلات المباني
مدارات تكن للعارفين عروف الجيل فطن في المعاني
ولما قال لي في الوجه ذم هذرني في القفا لما شناني
فلا ذميت لي يوم صديج ولا أشني عدو ما شناني

ومن وجهة نظر راوية الجرمن، كان بن ظاهر أكثر شعراء النبط القدامى استغراقاً في المكان الإماراتي وتعبيراً عن حكايته وتاريخه ووقائعه وقيَمه وأخصّ خصائصه. واعتبر قصيدته، على وجه الإجمال، أصلب من قصائد أقرانه من شعراء النبط في القرن الـ17م؛ وأكثرها إدراكاً جماليّاً للأشياء المبعثرة من حواليه. كما وجده من أقدر من اختار لفظة تعبيريّة، وركّب جملة شعريّة جذّابة وغير مضطّربة، وجملته الشعريّة تتعمّر، هكذا، بعفويّة وفاقاً لنجوى النَّفس وخلجة الوجدان ولهاث العاطفة المتأجِّجة في أعماقه. وقد فهمتُ من أبي عبد الرحمن الجرمن، أنّه يحتفظ ببضع قصائد “للمايدي” (أربع قصائد) غير معروفة أو مُتداوَلة بين الرواة والناس؛ وهي بحسب ما أفادني أقرب إلى الفصحى منها إلى العاميّة الإماراتيّة أو الخليجيّة. ومن هنا اتّصلتُ على الفور بالصديق الشاعر أحمد راشد ثاني، الذي كان يشتغل على الثقافة الشفويّة في الإمارات (منتصف التسعينيّات من القرن الماضي) وأخطرته بالأمر؛ فرحّب أيّما ترحيب بلقاء الرجل، وترك لي حريّة تنظيم اللّقاء المُشترَك. وهكذا جرى لقاءٌ ثلاثيّ، بين بوعبد الرحمن الجرمن، وأحمد راشد ثاني (مع حفظ الألقاب) وكاتب هذه السطور في كنف مجلس الشاعر سلطان بن علي العويس في بادية الذيد، وجرى كلامٌ تقييمي مهمّ للغاية في شعر بن ظاهر، كنّا فيه (أحمد راشد ثاني وأنا) في خانة المُصغين أكثر منّا في خانة المُناقشين. وفي ما بعد جرى لقاءٌ ثُنائيّ بين أحمد راشد ثاني والراوية الجرمن في منزل الأخير في الشارقة، لم أطّلع على مداولاته لاحقاً، وخصوصاً لجهة ما يتعلّق بموضوع قصائد الماجدي بن ظاهر غير المُتداوَلة شفاهاً ونشراً، ومسألة الإفصاح عنها كاكتشافٍ مهمّ وجديد لمحبّي شعر النبط بعامّة، وشعر الماجدي بن ظاهر بخاصّة.

في شعريّة محمّد بن راشد

تتميّز لغة القصيدة النبطيّة الجديدة والمُتداوَلة اليوم، باقترابها أكثر من اللّغة الفصحى، أو باتت هي “العاميّة المفصّحة”، أو “اللّغة التوسطيّة” في ما بين الاتّجاهَين الشعريَّين؛ ولكنّها ظلّت أيضاً اللّغة الغنيّة بمفرداتها، والبليغة ببيانها، والراقية بمجازها، ما يجعل القارىء العربي غير الخليجي (المتمرّس بقراءة الشعر وتذوّقه) يستوعبها على الفور ومن دون أيّ مقدّمات تُذكر. والتبدّل الذي حصل للغةِ القصيدة النبْطيّة، فَرَضتْه طبيعة الحياة الحديثة نفسها وتطوّر مظاهرها المحيطة وتغيّر أساليب العيش وظهور المدن والتجمّعات الحضريّة، ما جعل شعراء النبط يميلون آليّاً إلى أن يرقّقوا من عباراتهم، وينوّعوا من أسالبيهم، ويفرّعوا من موضوعاتهم.

من جهة أخرى، وكما تكون المفردات بمَواقع وظائفها، تكون اللّغة بمداليلها الإبداعيّة في الشعر بالعاميّة الخليجيّة. واللّغة إجمالاً لدى من يُتقن هذا الفنّ القَوليّ المُحبَّب، تظلّ مُختزَلة، متحفِّزة، غائرة، ضارِبة، حميميّة، قويّة جدّاً، لا يتقنها إلّا من امتلك أدواتها في الصميم، وباتت لديه هذه اللّغة خيوطاً يرتديها أو ترتديه.. لا فرق.

إنّنا مع “القناعة النقديّة” التي تقول إنّ الشعر النبْطي يُملي ويُوجب، يتدفّق ويُعلن، ودائماً عبر بثٍّ شجيّ يُلامس القلوب فيُفعمها فرحاً وغبطة.. وما علينا في النتيجة إلّا الإصغاء والتأويل والتحليل والاستسلام الطوعي لحيويّة فيض القرائح فيه على اختلافها.

فوق هذا وذاك، إنّ الشاعر بالعاميّة الخليجيّة أو بالنبط، يظلّ يُعمّق من التجربة لديه، ويستوفي منها أبعاداً استثنائيّة الدلالة على الواقع النفساني الذي يجتاحه، والذي بدوره يؤهّله للسيطرة على اتّساع وجدان المُستمِع من حوله. إنّه ابن اللّحظة المجهولة القابلة سريعاً للمعلوم، ينتقل خلالها من نصّ الوجود الحسّي إلى نصّ الوجود التعبيري، المتّصف غالباً بحاكميّة التطابق بين التصوّر وموضوعه، وينشقّ فجأة عن جوهر إبداعيّ حييّ بحشده الدلاليّ، يتكامل مع بنائنا الذَّوقي والروحي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ويُسهم في تحويل عقلنا إلى تاريخٍ يتحرّك، وهويّة تنطق، وثقافة تشعّ، وهذه المرّة، ضدّ الإرهاب والأيّام الكالحات والموت الذي ينهش حياة الأمّة ويترك أرضها وفضاءها بلقعاً ويباباً… نقطتف هذه الأبيات من قصيدة بعنوان: “فتنة الإرهاب” لشاعر النبط الكبير والطليعي الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الامارات، حاكِم دبي:

“ليس للإرهاب دين أو كتاب/ هو فيما بان لي شرعة غاب/ وله أتباع في تفكيرهم/ كل شيء مُمكن إلّا الصواب/ هُم مع الشيطان في أفعالهم/ بل من الشيطان أنكى في الخطاب/ مَن مضى في نهجهم أو فعلهم/ خاسر ما حظّه إلّا السراب/ خبّروني ما الذي يجنونه/ من جنون منه رأس الطفل شاب؟/ أي فكر هو هذا فكرهم/ غير قتل النفس من غير احتساب/…../ خَطَفَ الإسلام منّا زمرة/ فتحت للشر والفتنة باب/ زمرة مجنونة ملعونة/ كلُّ ما تأتيه هدم وخراب/ أيّ شرع كلّ ما فيه دم/ يترك الأرض بما فيها يباب/ يا بني الإسلام هل مِن وقفة/ تحسم الشر وتجتثّ الخراب؟/ إنّ في القوة حلاً كُلّما/ جاء أهل البغي يبغون الجواب/ فأعدّوا ما استطعتم واصبروا/ ذاك وعد الله في أمّ الكِتاب”.

تعكس هذه القصيدة للشاعر بن راشد حقيقة أنّ الفكر، وتحديداً السياسي منه، هو من المضامين المباشرة التي يحملها الشعر النبطي المندغم بالناس والأوطان والمُدافِع عنهما، وعن تراث الأمّة المستمرّ بحاضرها ومستقبلها، وخصوصاً عندما تكون هذه الأمّة مهدَّدة بمقدّساتها وقيمها الدينيّة والروحيّة. والإرهاب اليوم هو الوباء الأخطر الذي تواجهه أمّتنا، حيث الدين الحنيف مخطوفٌ، والجهة الخاطفة يُشخّصها الشاعر بـ”زمرة مجنونة ملعونة” دأبها الشرّ والفتنة والدمّ والهدم والخراب. ويرى في القوّة العاقلة حلّاً ضدّ أهل البغي هؤلاء، مستمدّاً طبعاً، من قلب الوعي بالدرس الديني الصحيح لكِتاب الله جلّ ثناؤه.

وهنا لا يساورنا شكّ بأنّ الشاعر محمّد بن راشد، وهو يمتلك كلّ هذا المخزون الرؤيوي لمِحنة الأمّة، يضع الإصبع على الجرح، ويعتكف عليه بالوعي، وبراعة القياس، محدِّداً الخيارات القاطعة والقطعيّة للمشكلة وطريقة علاجها، وذلك بعيداً من أيّ قراءة روتينيّة باهتة للواقع ومستجدّاته.

من جانب آخر، يتطرّق شاعر القصيدة النبطيّة المميّز (والنموذج هنا هو الشاعر محمّد بن راشد) إلى السؤال الفلسفي العميق في قصيدته، وعلى نحو ربّما يبزّ فيه زميله الشاعر الآخر في القصيدة المكتوبة بالفصحى، وخصوصاً لناحية الامتداد فوق ذرى الكون واكتشاف الذّات كمنهل لتفجير الأسئلة الوجوديّة حوله، ومحاولة إضاءة كلّ الزوايا المجهولة التي تعتريها في ذلك. وكذلك لناحية تدافع الصُّور والتراكيب الفنيّة المُتماثِلة والمُتقابِلة في قصيدته، حيث تجري هذه التراكيب مع الشاعر النبطي بكثير من اليسر وعدم التكلّف، وغالباً بما يتوافق مع ما في أعماق الشاعر والمتلقّي على السواء، محقِّقاً بذلك – هذا الشاعر- الأنا الوجودي بشكل عفوي، ومن غير مُداورَة ولا مُناورَة. من قصيدة “فَراسِهْ” لمحمّد بن راشد نقتطف:

“متعب خيل تفكيري أطارد سؤال/ وشفت أني بعلم ما انكشف للأريب/ أتقرّب لحلّ المعضلات الثقال/ كيف ها الكون يجري في نظام عجيب/ وكيف تسري اللّيالي ماضيات عجال/ ووين مبداه ها الكون الفسيح الرحيب/ ووين منه النهاية في اتّساع المجال؟/ عن وجودٍ بذاته محتفي ما يغيب/ وعن وجود لذاته مختفي ما يطال/ شفّ حتّى تظنّه في يمينك نصيب/ وخفّ حتّى تظنّه ذايب في زلال/ أرجو العذر لأنّي كاد رأسي يشيب/ من طويل افتكاري في أمور المحال/ وصرت أسمع لقلبي من عنايه وجيب/ وأتعبتني اللّيالي من عنا الارتحال/ ومَن يفلسف وجوده بالجدل ما يصيب/ والجدل دون تعريف المَعارف جدال/…./ والدلالة على المفهوم ما هي صعيب/ بس كيف الدلالة دون كيف ومثال؟”.

كيفما قلّبت هذه الأبيات، فهي تتباهى بالوضوح العميق، وكذلك بذلكم الحوار السهل المُمتنِع، الذي يتضمّن تساؤلات حول نظام الكون العجيب والمنطق الذي يحكمه، والذي له دوماً توازناته السريّة بالِغة الدقّة.. وتلك رسالة يدفعنا إليها الشاعر لنستنتج، وعلى طريقتنا، ما قوامه، أنّنا قد نستطيع التغلّب على القوانين البشريّة، لكنّ القوانين الطبيعيّة التي تظلّ تبثها هندسات التكوين، لا يمكن فكّ رموزها ولا استيعاب قواعد آليّات عملها. وكأنّي بالشاعر محمّد بن راشد هنا يأخذ لغته من مفردات التكوين وفضائه كمفتاح للكشف والتأويل، لا يلبّيه إلّا أبناء الخيال من الشعراء والعُلماء الأفذاذ أنفسهم، وهو في مقدّمتهم.

من جانبٍ آخر، تؤكّد لنا التساؤلات الفلسفيّة والكونيّة التي يطرحها الشاعر بن راشد، أنّ الحياة، حياتنا، ما هي إلّا رحلة محيّرة يشيب لها الرأس من كثرة التفكير في المُحال معها، وكذلك من خلال تشكّل الأخيلة الرؤيويّة التي تصاحبها.

الإبداع بحَرْف السّين

ويجري في بعض القصائد النبطيّة أحياناً تركيزٌ على حروفٍ معيّنة، والتدوير عليها ببراعة إبداعيّة ولا أروع. وهو أسلوب ينمّ عن المقدرة التي تنضاف إلى الطاقة التعبيريّة، ولا تأخذ محلّها ولا تنوب عنها. وتؤكّد لنا هذه العمليّة – في المحصّلة – أنّ القصيدة النبطيّة ليست هي أسهل الأسئلة الإبداعيّة القوليّة، إلّا لأنّها أصعبها على الإطلاق. لنطالع ما يفعله حرف السين من تنويعات في قصيدة “سبائك” للشاعر الكبير الشيخ محمّد بن راشد:

“سرى ساري بسيره سروا ساريين اللّيل/ مسير السرى وأسرى مع السامر الساري/ سحابة سحب، سحب السحاب، وسحب دهم إمخيل/ يسحّ السحايب سحها يسح مدرار/ سقاها وأسقت سواقي السقايات إمحيل/ يسوقه مساق السواقي بسوق سماري/ ووسم وسمة الوسمي بوسايم وسم نو سهيل/ سما والسما من نو وسمه به إتماري/ تسلسل مسيلة يسيل وسيل سيل سيل/ وسلك مسالك سالك بسلك تياري/ وسعى ساعي يسعى وسعى سعيه بتحصيل/ مساعيه تسعى بسعي من سعيه الياري/……./ رسم رسمه الراسم ورسم رسمه بتمثيل/ مراسيل يرسم رسمها برسم الإشهار/ وسألت المسايل رسايل سردها تسجيل/ وسويت لأهل الشعر سنه ومقدار/ وسلامي سلام المسلم سلم بتبجيل/ ويسلم جميع اللي سأل يسمع أخباري”.

في نظريّة الجوهر الشعريّ

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ شاعر القصيدة النبطيّة، إنّما ينطلق من “قانون” الفطرة، محرِّراً “الحقائق” المضغوطة بالصوت والصمت معاً، ودائماً يصل إلى ما وراء أداته ومقرّ نزاعه المفتوح مع مخيّلته.
إنّه غريزي إذاً، والغريزة ليست نظريّة، وليست هندسة للشعور أو اللّاشعور، ولا هي كذلك بؤرة صوريّة مُحايثة.. الغريزة تصرّف، ومتى تحقّق تصرّفها أو بالأحرى تحقَّقت معجزتها القوليّة، خمدت، وراح شاعرها، بالضرورة، ينشقّ عن غيرها.
الشاعر المتميّز بالعاميّة الخليجيّة، أو النبْطيّة من طراز الشيخ محمّد بن راشد، هو الحامل في مخيّلته “نظريّة” الجوهر الشعري الخالص، أي تلكم “النظريّة” العفويّة، البريئة، المتخلّصة من البلاغة المجعولة أو المركّبة، والتي تظلّ تُنمذِج بذاتها أساليب استجاباتها للحاجات التعبيريّة الغريزيّة. إنّه مقيم دوماً في قلب حنينه النازح والمتمدّد في حقل مداولاته دائمة التغيّر… وهذا الشاعر يظلّ يعرف في النتيجة كيف يُشعشع الوقت الباهت الرتيب فيه، وفي مَن حوله، ثمّ يبدأ باستكمال بثّ إشعال “فضيلته” الإبداعيّة فينا.

والأهمّ بعد في الشاعر المتميّز بالعاميّة الخليجيّة أو بالنبط، من مثل قامة الشيخ محمّد بن راشد، أنّه لا يكترث للإفادة من تجاربه السابقة المدوّنة، ولا كذلك من مسألة السموّ خلالها وعليها. فالوجدان الشعري لديه، ليس مُنتِج أحكام القيمة فقط، ولكنّه في محلّها تماماً، وكذلك هو الفاعل الجائل فيها. إنّ لسان هذا الشاعر يتكلّم بطلاقة لغة الساكن والمُتحرِّك، والمُحتشِد وغير المُحتشِد، والميسِّر وغير الميسِّر، ويظلّ مشدوداً على الدوام في اتّجاه تقليب المعاناة.. معاناته المكثّفة في كلّ اتجاه.

في شعريّة خالد الفيصل

بدَوره يشكِّل الشاعر الأمير خالد الفيصل قامة كبرى تتصدّر قامات الشعر النبطي في الخليج العربي. إنّه في مقدّمة مَن يرعون أصول هذا الشعر وتجدّده ليبقى أيقونة التعبير المتميّز بالرقّة والشفافيّة وإسلاس الكَلَم وأناقة العبارة.

وربّما لأجل ذلك يحتلّ شعر الحبّ والغزل مساحة عريضة في مَسار تجربته الشعريّة. وغزليّاته هي من النَّوع العذريّ السامي المتّسم بالمُفارقات العشقيّة البعيدة عن صنوف الماديّات والإباحيّات في النَّظر إلى المحبوب أو مُخاطبته. وهو في عشقه يميل إلى الأماني التي تزخر بها صورة المحبوب في نفسه، ولكلّ نَفْس بالطبع أمنية تعزّ عليها. هكذا يصير المحبوب هو الصورة الأخرى للذات الشاعرة وكيمياء غوايتها التي تنتشر بكثافة في معاني القصيدة ودلالاتها الإيحائيّة.

وغالباً ما يرتبط غزل الشاعر خالد الفيصل بتصاريف الأيّام والفقدان والشوق والتيه والحزن والعذاب وبذل العمر كلّه في انتظار جواب الحبيب، والنتيجة لا جواب.. أو جواب يحاكي مصير مجنون ليلى، ودائماً عبر “قصيد” إيقاعاته الداخليّة تتلاقى وتتفرّق في الشاعر أكثر من إيقاعاته الخارجيّة، لكنّها كلّها مجتمعة تعكس أحوال الشاعر الدراميّة في مظانّها وطوارئها: نقرأ من قصيدة بعنوان “استكثرك وقتي” لشاعرنا الكبير خالد الفيصل:

“ليت الذي ودّاك يا زين جابك/ تشوف عقبك كيف الأيّام سون/ شرق مشيت وغرب وقتي مشى بك/ والقلب ما له لايم فيك لو ون/ عقب الهنا بك ذاق لوعة عذابك/ تلوّنت دنياه ولا تلوّن/ طويتني طيّ الورق في كتابك/ حتّى معاليق الحشا لك تطون/ اشتقت لأيّام الهوى في جنابك/ يوم الشموع بليل الأحباب ضون/ واشتقت أقول لهاتفك مرحبا بك/ واشتقت لغيوم الصحارى تكون/ عود ترى داعي الهوا عند بابك/ وارو القلوب اللي بعد ما ترون/ غنّيت لك عمري ولا جا جوابك/ واسمي مع مجنون ليلى تدوّن”.

وشعر الحبّ لدى خالد الفيصل هو في الأغلب الأعمّ “قرين الزمن”، أو القرين الذي يصنعه الزمن.. ويفرضه. وهنا تحمل تجربته الحبيّة وقائع الرحيل أو الغياب، الذي لا رجعة عنه. وينتقي الشاعر في موقفه الحبّي كلماته بعد أن يتأملها، ثمّ يعيد تشكيلها وصوغها، ودائماً بما يتناسب مع الدلالة الوجدانيّة التي تحرّكها وتسيطر من خلالها على اتّساع وجدان المتلقّي. نقرأ في قصيدة “خذاك الزمن” لخالد الفيصل:

“خذاك الزمن منّي وترك لي أشواقي/ ليته خذا ذكراك من كلّ أوراقي/ الصهد ولّع حياتي ليتها لمعة قمر/ تذكر أيّام القمر؟ كيف السمر أصبح سهر/ كيف الأماني أصبحت شكوى عمر/ ليه انطفى فيك الزمان؟/ ليه اختفى فيك الأمان؟/ خذاك الزمن منّي/…./ تذكر الفرحة ولهفاتي عليك/ أسبق الموعد إليك/ ولحظة الشوق الكبير/ والخفوق اللي من الفرحة يطير/ ورقصات الدقائق عند الوعد/ وهمسات الحقائق قبل وبعد/ ليه انطفى فيك الزمان؟/ ليه اختفى فيك الأمان؟/ خذاك الزمان منّي”.

ثمة أناقة استثنائيّة ضاربة يقدّمها شعر الغزل بالعاميّة الخليجيّة، وخصوصاً عند شاعرنا الكبير خالد الفيصل، حيث القصيدة تقوم على نَوع من التلوين الأسلوبي والتقطيع الموسيقي والابتكار البديعي والانطلاق الخيالي، الذي يتفجّر بالصور الجديدة على هيئة لوحات متدافعة ومتّشحة بالجمال فكراً وعاطفة وترويضاً للرهافة ودقّة الصوغ والتصوير؛ إذ المفردة الشعريّة هنا تولد للتوّ مُلاصِقة للصورة الشعريّة. لنستعرض هذه القصيدة – اللّوحة له والحاملة عنوان:

“تستاهل”: “تستاهل الحب نجديّه/ رفيعة الشان عجّابه/ بحريّة العين يا عين/ نهّابة لقلوب الأحباب/ والجيد يا جيد ريميّه/ تجفل من الزول لعّابه/ وسميّه والريح يا ريح/ تنثى به نبث الخزامى/ صفيت مع صافي النيّه/ يوم الذي صابني صابه/ أو جيّه ما عاد لي روحه/ على بابه وقف هوانا”.

ويخيّل لي أنّ الشاعر خالد الفيصل يعيش التجربة عميقاً في قصيدته قبل أن يصبّها على الورق. وعندما تتكامل على الورق (أمام قارئها وحتّى سامعها)، تصير القصيدة هي ما وراء الاستعارات ووراء الكنايات ووراء التشابيه، وإن كانت تفيد منها. وهذا دأب قصائد مختلف الشعراء الكبار (بالعاميّة وبالفصحى على السواء) الذين يتركون للقارىء تولّي بلورة الخلاصات ومُراكَمة سحر الإشارات والومضات المفتوحة على التأويل ومادّة الجدل والنقاش والإخراج والاستخراج. هكذا فإنّ لغة الشعر الحقيقي هي اختراق للّغة بهدف الكشف عن اللّامرئي لجعْله مرئيّاً، ولو في اللّمحة الخاطِفة أو عبر الأطياف اللمّاحة.

في تعبيره الشعري عموماً، يلجأ الشاعر خالد الفيصل إلى التعبير التصويري لا التقريري، والتصوير لديه منشبك بالأحاسيس، التي تظلّ تشي بطبقة ثانية من المعرفة وسحر الإيحاء. والأهمّ في قصيدته إجمالاً أنّها تجمع الواقعيّة بالرمزيّة بالسرياليّة المخفَّفة، والمتجلبِبة بالكثير من التشبيهات والاستعارات والصُّور الرأسيّة والأفقيّة.

وهو إجمالاً يبني قصيدته مِدماكاً بمِدماك، زارعاً اللّين في قلب القسوة والقسوة في قلب اللّين وعبر نَفَسٍ مَلحمي حبّي يُناظر تجربته الحبيّة الروحيّة المُقيمة وغير المُستنفدة:

يا وش بقى باعطيك منّي ولا جاك ما باقي إلّا روحي أحيا بها لك
أوصف جمالك كلّ ما أنشدت وأهواك وأزين أيّامي بجلسة خيالك
يا الغايب لبي ولا ألقاك أقرب من عروقي وصعب منالك
شالك زماني عن عيوني وودا لا شكّ وثق في ضلوعي حبالك
يا حاجب شمسي ورا ليل جفواك ما بالعهد بكَ قاسي في دلالك
وش غيرك يا منوة القلب على حبيبي بلا شمس دنياك
واللّيل يوحش لو تغير هلالك ما ينقطع ظما الهوى إلّا على ماك
ولا يهون حره إلّا ظلالك ولا تشوف العين زين بلياك
ولا يطرب سمعي إلّا مجالك ولا انتفض قلبي من الحبّ لولاك
ولولاك ما يبدي عليّ ما بدالك

ومن الأهميّة الإشارة إلى أنّ خالد الفيصل لم يقتصر في شعره على الحبِّ والغزل؛ فله شعر كثير في الوطن وحبّ الوطن والمواقف العروبيّة الأصيلة، فضلاً عن أغراض الشعر الأخرى من مدح ورثاء وفخر…إلخ، وتأمّل في أحوال الذات والكون والوجود. ولا غرو، فالشعر هو من بين وسائل فهْم الوجود الرئيسة، وأداة من أدوات صنع الوعي العامّ. ولأنّ العروبة هي هويّته، فشعره إجمالاً يكرّس هذه الهويّة المُنفتحَة بدَورها على الهويّات الإنسانيّة كافّة.

ويمكن القول بيقين إنّ شعريّة خالد الفيصل ذات طعم خصوصيّ مُفارِق في سائر توجّهات قصائده ومضامينها. والمجال يضيق أمامنا في هذه المقالة للاستطراد في الفضاءات الشعريّة الخاصّة بشاعرنا، وهو ممّا يحتاج إلى دراسة نقديّة مطوّلة ومعمّقة مكانها النشريّ في وعاءٍ أكثر اتّساعاً.

هكذا إذاً، يظلّ الشاعر بالعاميّة الخليجيّة يقيس حراك موضوعاته وحادثاته وأسئلته الشعريّة بالمبادىء والقيَم التي تصدر عنها لغته المفهوميّة الخاصّة به، وبقصيدته المحمَّلة بمشهديّات شعريّة ذاتيّة المصدر، ولا يتقدّمها إلّا صدقها الشموليّ.

الحاجة إلى درس النقد

منذ أن ذكّر ابن خلدون (1332 – 1406) بالحضوريّة الواثقة لشعر البادية العربيّة الشفوي، مسجِّلاً في “مقدّمته” الشهيرة أبياتاً نبطيّة لشاعرٍ من بني هلال يدعى خالد بن حمزة بن عمر، والشعر بالعاميّة الخليجيّة إلى اليوم، لم يحظَ بالاهتمام النقدي الواسع والمطلوب، وذلك بالمُقارَنة مع نظيره المكتوب بالفصحى؛ ما يعني ذلك وجوب الاهتمام الاستثنائي بهذا النَّوع من الشعر، الذي هو ابن شرعي للشعر الفصيح، وكلاهما وصل إلينا عن طريق الرواية والتواتُر الشفوي وتراكُم التدوين مع الأيّام. و” من الخطأ الكبير اعتبار الشعر النبطي مُنافِساً سلبيّاً يضرّ بتعلّم اللّغة العربيّة وانتشارها” على حدّ تعبير الناقد د. إحسان عبّاس (في حوار مع كاتِب هذه السطور – مجلّة “الكفاح العربي” اللّبنانيّة – نيسان/ إبريل 1981)، مردفاً ” أنّ هذا الشعر، على العكس، يعزّز من التضلّع باللّغة العربيّة الفصحى، ويُساعد في انتشارها أكثر على امتداد بوادي الوطن العربي وحواضره على السواء”. وفي معرض شعريّة القصيدة النبطيّة يرى الناقد عبّاس: “أن القصيدة النبطيّة أجمل وأعمق وأكثر تأثيراً بكثير من نظيرتها بالفصحى، سواء أكانت كلاسيكيّة أم حديثة”.

ولعلّه من باب تكرار البداهات القول إنّ الشعر النبطي يحتاج إلى نقّاد كبار، ينشغلون به وينظّرون له تنظيراً جماليّاً مؤسِّساً ومُستداماً يقف بـ”ثباتٍ إبداعيّ” قبالة ذاك المَسار النقدي التنظيري المؤسّس من زمان للشعر المكتوب بالفصحى وبأشكاله المختلفة، الكلاسيكيّة منها والحديثة على تنويعاتها.

لا بدّ إذاً من صناعة “المفهوم” النقدي للشعر العاميّ أو النبطيّ وفق أصول وقواعد علميّة خلّاقة ومُتداوَلة، هدفها حماية هذا الشعر، وحفْظه كنسقٍ تعبيريّ متجدّد ومتطوّر. ولعلّه في محلّه تماماً هنا قول الشاعر الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم: ” إنّ الشعر النبطيّ ينبغي أن يُدرس بقوّة، لكي يتمّ الحفاظ عليه”. ولا تتمّ المحافظة على هذا النَّوع من الإبداع القوليّ فعلاً، إلّا بإيجاد مُعادلٍ نقديّ مُوازٍ له، أو نظريّة نقديّة مولّدة وعميقة لتجاربه بالغة الفذاذة، تفرض احترامها على الجميع، من دارسين مختصّين وغير مختصّين، وتوجد بالتالي تلكم المُعادلات النقديّة الذهبيّة المُنتظرة لنقّاده الجدد المؤسّسين.

ولعلّ استنتاجنا الأخير هذا، إنّما ينطلق من العبارة التاريخيّة الدالّة التي جاء بها الشاعر الشيخ محمّد بن راشد، وهي عبارة – من دون محاباة ولا زلفى – غاية في الأهميّة، وتشكِّل دعوة صادقة وهادِفة لكلّ الحرصاء على الشعر النبطي وحفظه مُمثَّلاً بنِتاجات روّاده القدامى والمُحدّثين والمستجدّين الواثقين.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى