إيـكـيـبـانـا

 

تعود كلمة ” إيكيبانا ” إلى بالي كلما رأيت محلا لبيع الأزهار أو باقة منسقة منها أو إذا تناقشنا حول موضوع قطف الأزهار و بيعها في باقات كما في بلادنا .

و هذا ما جرى قبل أيام في إحدى جلساتي مع المعارف و الأصحاب ، لأقصّ  عليهم ما رأيته منذ سنوات في صالة أحد فنادق دمشق الكبرى حيث قدم لنا صانع ماهر ياباني في تنسيق الزهر عرضا لفنه في تنسيق الأزهار ، عندما صنع من كومة من الأغصان البرية بأزهارها و أعشابها و فعلاً إستطاع بكثير من الإثارة و المهارة أن يرمي جانبا عدداً كبيراً من هذه الكومة و يُفاجئنا بتركيب فني خاص لما تبقى بين يديه يشعُّ  سحراً و فتنة على بساطته و إعتدال حجمه.

منذ ذلك المشهد دفعني فضولي المعرفي إلى البحث عما وراء هذا الفن في بعض المراجع فإذا بي أقع على فلسفة متكاملة في علم الجمال تكمن وراء هذا الفن الياباني المسمى ” إيكيبانا” من   خلال ما تقوله المدرسة الدينية و الفكرية المسماة ” أل زن” al zen في اليابان والتي تعتني كثيراً بالكشف عن ” الأنا ” الحقيقية و الكامنة للأحياء عامة وراء ركام الإنشغلات  اليومية بأمور العيش إنسجاماً بمبادئ البوذية التي تدعو إلى الإحترام العميق لظاهرة الحياة كدعوة إلى وحدة كونية شاملة تلخص فكرة تجمع الكون بأكمله ما أمكن ذلك في المظاهر التي نواجهها حتى الصغير الضئيل منها مما يذكرنا بهذا البيت الشعري للشيخ المجتهد الصوفي الأكبر ” إبن العربي ” في قوله :

و تزعم أنّك جرمٌ صغيرٌ                                    و فيك انطوى العالمُ الأكبرُ

هكذا لم أعد أجد ما يرضيني حقاً في أساليب تنسيق الأزهار المعمول به في أوروبا و أمريكا و بلادنا العربية عموما وبعض الأسيوي منها إذ يتمّ في تنسيق الزهر لديهم أسلوب التجميع الهندسي المكثف في عدد الأزهار في الباقة الواحدة بشكل مرصوص بعضها فوق بعض أو حشرا جنبا إلى جنب ، في حين ينفذ معلم فن ” الأيكيبانا ” الإحنفاظ بالشكل الطبيعي للزهرة على غصنها و كأنها لم تقطف بعد ، لا هي ولا الغصن الذي ينتمي إليه و يمدها بالحياة.

حتى الحدائق العامة في اليابان على الأخص ، و في بعض مقاطعات الصين شاهدت في الصور المنشورة لهذه الحدائق في بعض الكتب التي تعالج هذه الظاهرة التي تنفرد بها اليابان خاصة ، حيث تبدو الحديقة بأشجار قليلة و صخور مبعثرة دونما نظام و بعض التراب أو الرمل متراكم بين الصخور و قد تسمح بعض الممرات المنشقة بين الصخور بجريان الماء أو لا على التعيين كبركة نظامية للماء أو بحيرة ذات ضفاف غير مستوية في نظام محدد و كأنك حين تدخل إلى هذه الحدائق الموجودة داخل المدن وكأنها مشهد عابر غير نظامي للبرّية خارج المدينة وبعيدا عنها مع أن الحديقة  تكون أحيانا في طوكيو أو غيرها من المدن في قلب المدينة و ساحتها المركزية حيث تحتشد الأبنية العالية و المتراصة مع زحام المرور للمارة و للسيارات في حين تبدو الحديقة و كأنها خارج المدينة في البراري المحيطة بها .

أن تفهم الزهر فهذا يعني أن تفهم أولا الطبيعة العذراء و تدرك ما وراءها من أسرار الجمال  و من دون ذلك فأنت مجرد قطاف يعتدي على الطبيعة مستخدما يده و المقص الفولاذي أو السكين الضخمة الماضية بدلا من أن تفكر أولاً و تستخدم قلبك المحب ثانيا …. و لكن هيهات للجهلة  القتلة القساة أن يرأفوا بالطبيعة العذراء !!…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى