‘إيلينا تعرف’ رواية محققها محروم من السيطرة على جسده
تمزج رواية الكاتبة الأرجنتينية كلاوديا بينيرو “إيلينا تعرف” بين رواية الجريمة والأسئلة الأخلاقية بحثا عن الحرية في مواجهة الإدانات الاجتماعية والدين والمرض والشيخوخة والهيئات التي تعتني بشيخوخة الآخرين والأمومة والإجهاض، فبعد العثور على “ريتا” معلقة ببرج بالكنيسة بعد ظهر يوم ممطر، الكنيسة التي اعتادت حضور القداس بها، يتم إغلاق التحقيق الرسمي في الحادث بسرعة.
لكن “إيلينا” والدتها المريضة تبقى الشخص الوحيد الذي ما زال مصممً على العثور على الجاني ومن ثم تبدأ في كشف أسرار شخصياتها وعلاقتها بابنتها، فضلا عن الجوانب الخفية للسلطوية والنفاق المجتمعي الذي حاصرها هي وابنتها وإيزابيل والمتمثل في العقائد السائدة.
الرواية التي ترجمتها نهى مصطفى وصدرت عن دار العربي تختبر أيضا الأمومة بطريقة مختلفة، حيث ترى أنه لا يمكن حصر الأمومة في عدد قليل من القواعد أو التعليمات، في كل مكان يمكننا أن نجد أفضل أم في العالم وفقا لأطفالها.
ومع ذلك فالأمهات مختلفات، فكل امرأة هي أم بطريقتها الخاصة، حتى أولئك الذين لم ينجبوا أطفالا، مثال ذلك “ريتا” التي تخشى أن تصبح أما لأمها المريضة، وإيلينا من جانبها تصبح أفضل أم في العالم من خلال تكريس لحظات قليلة من السيطرة على جسدها لإيجاد الحقيقة وراء موت ابنتها، امتلاكها كل قوتها وحساسيتها تجاه هذا الإجراء الأخير الذي سيقودها إلى اكتشاف الجزء المجهول من “ريتا” وتتحدى الجميع؛ مرضها والشرطة ومحيط الحي الذي تسكن فيه من أجل أن تكشف الحقيقة، و”إيزابيل” التي تعد من بين شخصيات الرواية الضحية الحقيقية نتيجة ما تعرضت إليه من اعتداء على جسدها من جميع الجهات.
مرض إيلينا يجعلها غير قادرة على التحكم في بعض أجزاء جسمها، شرح لها الطبيب عدة مرات، لكنها مازالت لا تفهم، إنها تفهم ما لديها لأنه داخل جسدها، لكنها لا تفهم بعض الكلمات التي يستخدمها الطبيب، كانت ابنتها “ريتا” معها عندما شرح لها الطبيب المرض لأول مرة، “ريتا” التي ماتت الآن، أخبرهما أن مرض “باركنسون” هو تدهور خلايا الجهاز العصبي “مرض بالجهاز العصبي المركزي يؤدي إلى تدهور الخلايا العصبية، أو تحورها أو تغيرها أو تعديلها، بحيث تتوقف عن إنتاج “الدوبامين”.
الشرطة أخبرت إيلينا أن “ريتا” انتحرت بشنق نفسها داخل كنيسة الحي، لكنها تعرف أن هذا ليس صحيحا وأن ابنتها قتلت، لأن “ريتا” لن تقترب أبدا من الكنيسة أثناء هطول الأمطار لا يمكن لها أن تسير في المطر وتقتل نفسها.
وفي تلك الليلة، كما تعلم إيلينا، كان البرق كامنا ومع ذلك، فإن الشيء الوحيد الذي سقط في تلك الليلة هو جثة ابنتها، الشخص الوحيد الذي يمكن أن يعتني بها اعتناءه بطفل مريض غير قادر على احتواء حتى سوائل الجسم والفضلات وغير قادر على النهوض من تلقاء نفسه سواء كان جالسا على كرسي أو ممددا على سريره.
تعرف إيلينا أن شخصا ما أخذ ابنتها، حاميها الأول والأخير، منها وعلى الرغم من أن المفتش وكل فرد من أفراد الشرطة الأرجنتينية حاولوا إقناعها بخلاف ذلك، إلا أنها لم تؤمن بذلك، ولم يتبق لديها سوى أن تصبح محققة خاصة؛ محقق محروم من السيطرة على جسده.
إيلينا تعرف ابنتها جيدا، “أو هكذا تعتقد إيلينا، لأنها والدتها، أو كانت والدتها. تعتقد إيلينا أن الأمومة تأتي مع أشياء معينة؛ الأم تعرف طفلها، الأم تعرفه، الأم تحبه، هكذا يقولون، هكذا هو الأمر، لقد أحبت ابنتها ولا تزال تحبها رغم أنها لم تقل لها ذلك مطلقا، رغم أنهما كانتا تتعاركان وتبتعدان عن بعضهما، رغم أن كلامهما معا كان مثل ضربات السوط، حتى لو لم تعانق ابنتها أو تقبلها، فقد شعرت بحب الأم”. ولهذا عليها أن تكمل رحلتها رغم صعاب مرضها وتتحدى الشيخوخة والإعاقة وكل شيء حتى ما لا تعرفه إيلينا وما تنكره.
تتذكر إيلينا ابنتها ورغباتها وعلاقتها وتبحث عن أسباب لتقوية ما تعرفه ودحض الأدلة التي تقول إن ابنتها انتحرت. ستفعل كل ما يتطلبه الأمر، مهما كان الثمن، ستقع الحقيقة على عاتقها.
والروائية كلاوديا بينيرو وهي المحللة الثاقبة التي لا تكتفي بسرد قصة، إنها تقربنا من حنان وألم ومثابرة وشجاعة الأم المريضة، إنها تظهر لنا الأضواء والظلال لتلك العلاقة بين الأم والمحبة وتقودنا تدريجيا إلى اكتشاف الحقائق، مما يجعلنا نشك مثل إيلينا في ما نعرفه وما لا نعرفه، تشعرنا بالقريب من بطلتها لدرجة أننا نعاني من حزنها ونرافقها في تحقيقاتها وذكرياتها وفي حدادها.
تقول أستاذة أدب أميركا اللاتينية بجامعة إدنبرة فيونا ماكينتوش في قراءتها للرواية أن كلاوديا بينيرو في روايتها القوية متعددة الأصوات تقدم سردا من منظور شخصية مختلفة في كل فصل لتتخيل المدى المروع الذي سيذهب إليه كل فرد من أفراد الأسرة في رغبته المضللة في التحلي بالحشمة والحفاظ على شرف العائلة.
وأضافت أن بينيرو في جميع أعمالها لا تخجل من الأسئلة الأخلاقية الأكثر إلحاحا، تضع شخصياتها في أزمات حيث يتعين عليها اتخاذ قرارات جذرية، وغالبا ما تجد شخصياتها لا تعرف حقيقة أفكارها حتى تتعرض أجسادها للخطر، وفي اللحظات الحاسمة يظهر نوع أعمق من المعرفة.