«اتفاق القاهرة» يترنّح.. واللبنانيون يسقطون في فخ السلاح

الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975 (4)

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) وليدة لحظة بوسطة عين الرمانة. تلك الشرارة، مهدت لها وقائع وأحداث بعضها بنيوي مرتبط بتأسيس الكيان اللبناني، ولا سيما مرحلة ما بعد ولادة صيغة العام 1943(الاستقلال) وبعضها الآخر، متصل بموقع لبنان الإقليمي وتحوله إلى ساحة صراع وتبادل رسائل.

بعد حرب حزيران 1967، أدّى تسلسل الأحداث في لبنان إلى خلق أزمة لبنانية ـ فلسطينية سرعان ما تحوّلت إلى توترات أمنية بين 1968 و1975. هذه التوترات، تحولت بدورها إلى صراع مسلح في 13 نيسان 1975.

في الحلقات الثلاث من سلسلة مقالات «الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والإنزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975»، عرضنا لكيفية اختلاط أوراق اللاعبين على الساحة اللبنانية بعد حرب العام 1967، وانتقال العامل الفلسطيني المسلح الى لبنان وكيف نظرت باريس بحذر إلى «اتفاق القاهرة» بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي، تخوّفت من تحويل الحدود الجنوبية إلى ساحة صراع مفتوح مع إسرائيل.

تستعرض الحلقة الرابعة، اليوم، كيف راقب الديبلوماسيون الفرنسيون عملية تطبيق «اتفاق القاهرة». في الواقع، كانت هواجسهم تتمحور حول الضمانات المتعلقة بآلية تنفيذ الاتفاق وبمدى الالتزام به. كانوا يترقبون كيف أن فشل تطبيقه، أو عدم احترامه، إنما يبّشر بانعكاسات مأساوية على الوضع اللبناني.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت تنكشف صعوبة تطبيق «اتفاق القاهرة». بعض الوقائع والتحركات الميدانية جعلت سفير فرنسا في بيروت برنار دوفورنييه يسلط الضوء على عدد من التداعيات المحتملة، المثيرة للقلق. ففي تقرير وجّهه إلى وزير الخارجية موريس شومان، في 27 تشرين الثاني 1969، أورد دوفورنييه أن «وحدات (الجيش اللبناني) انسحبت حتى (بلدة) تبنين الجنوبية (قضاء بنت جبيل)، حوالي عشرة كيلومترات شمالي الحدود، تاركة بالتالي كامل المنطقة الحدودية تحت سيطرة الفدائيين، بالإضافة إلى منطقة خلفية واسعة النطاق (عميقة بما فيه الكفاية). لكن الطريق الساحلية الواقعة جنوبي صور والممتدة باتجاه الحدود مع إسرائيل، ظلّت تحت سيطرة الجيش اللبناني».

أضاف السفير دوفورنييه: «هناك صعوبة في إبداء الرأي، من الآن، حول معنى هذا الانسحاب، ومعرفة ما إذا كان قد تم الاتفاق عليه في القاهرة. لكن، أيّاً تكن الدوافع، من شأن هذا الانسحاب أن يتسبب بخطر تزايد ميول سكان القرى الحدودية لهجر بيوتهم بعدما باتت عرضة لأعمال انتقامية إسرائيلية، واللجوء بشكل متزايد إلى الداخل، وصولاً حتّى إلى بيروت». تنبّأ السفير إذاً بعواقب وتحولات اجتماعية وديموغرافية في لبنان نتيجة لتدهور الوضع في الجنوب. وحذّر أيضاً من لعبة تنازلات محفوفة بالمخاطر: «كل شيء يحصل كما لو أن (الأطراف المعنية) قد أقدمت على التضحية بالبعض لئلا تخسر الكلّ، الأمر الذي من شأنه الحد من المخاطر على المدى القصير، لكنه سيخلق، بالنسبة لمستقبل المنطقة (الجنوب)، رهانات سياسية خطيرة».

خيبة أمل.. فرنسية

مع مرور الوقت، بدأت تتوالى البشائر غير السارّة. في 16 كانون الثاني 1970، كتب القائم بالأعمال في سفارة فرنسا، بيير ـ هنري رونار، تقريراً متشائماً بعنوان «التطبيق الصعب لاتفاق القاهرة». بدا واضحاً في هذا التقرير أن الديبلوماسية الفرنسية لم تكن راضية عن آلية التنفيذ: «بعد مرور شهرين ونصف على التوقيع على اتفاق القاهرة، لم تتم ترجمة «التعاون» بين السلطات ومنظمات المقاومة إلى أفعال». فالوضع في مخيمات اللاجئين بقي «شبيهاً جداً بما كان عليه عشية اتفاق القاهرة». أما في المدن اللبنانية، فـ «يُشَاهَد عدد قليل نسبياً من الفدائيين بلباس عسكري، وتم التوقف عن إطلاق النار في الهواء في كل مناسبة، لكن مخازن الأسلحة التي تم إنشاؤها في المخيمات، تمثّل تهديداً دائماً للأمن» وفق ما ورد في التقرير الديبلوماسي الفرنسي. الأخطر من ذلك يتمثل في أنه «منذ اتفاق القاهرة (…)، تم تسجيل وقوع هجمات إسرائيلية عدة إثر أعمال قامت بها المقاومة الفلسطينية» على الحدود الجنوبية. في هذا الصدد، ذكر الديبلوماسي الفرنسي أن التفاهم اللبناني ـ الفلسطيني الذي أعلن عنه وزير الداخلية كمال جنبلاط في 8 كانون الثاني 1970، نصّ على وقف إطلاق الصواريخ عبر الحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية»، لكن «لم يتم احترام هذا التفاهم من جانب الفدائيين الفلسطينيين»، بحسب الديبلوماسي نفسه.

التقييم الفرنسي ظلّ سلبياً في نهاية شباط 1970. كانت الثغرات كثيرة. أبرزها تمثّل بمسألة سلطة الدولة على المخيمات. اعتبر سفير فرنسا في بيروت أنه «طالما أن مخيمات اللاجئين ما زالت غير خاضعة لرقابة السلطات (اللبنانية)، فإن مشكلة عمل الفدائيين في لبنان ستبقى حادة. تدرك الحكومة، شأنها شأن القيادة العسكرية الفلسطينية، أن الاختبار الحقيقي وامتحان القوى بكل ما للكلمة من معنى، يكمنان في مسألة (مراقبة السلطات للمخيمات). حتى الوقت الحاضر، وعلى الرغم من أن وزير الداخلية، (كمال) جنبلاط، يعبّر بشكل منتظم (…) عن ارتياحه، تبقى السيادة اللبنانية مجمّدة على جزء كبير من الأرض الوطنية»، كما جاء في برقية السفير الفرنسي.

تزايد النفوذ اليساري.. مسيحياً

فتح «اتفاق القاهرة» الباب أمام عملية تفكك وانهيار الدولة في لبنان. هذه المسألة كانت موضوع دراسة للدكتور فريد الخازن في كتابه «تفكك أوصال الدولة في لبنان، 1967 ـ 1976». فقد شهدت البلاد تجدد الاحتجاجات الشعبية ضد سياسة السلطات اللبنانية تجاه الفلسطينيين. وشهدت في المقابل، بداية نقمة شعبية مسيحية ضد المظاهر الفلسطينية المسلحة. انفجرت هذه النقمة في شهر آذار 1970، حين وقع اشتباك مسلح بين ناشطين مسيحيين وفلسطينيين في بلدة الكحالة، أثناء مرور موكب لتشييع أحد الفدائيين (الملازم أول سعيد الغواش) في طريقه الى دمشق. لم ينحصر التوتر الأمني في بلدة الكحالة فقط، بل توسّع نحو بيروت وبرج البراجنة وحارة حريك والشياح وسقط فيه قتلى وجرحى.

على أية حال، كانت الأجهزة الأمنية اللبنانية تدرك أن البلد دخل في مسار فوضوي على حساب سلطة الدولة. فقد قال المدير العام للأمن العام، جوزف سلامة، للسفير دوفورنييه، في مطلع العام 1970، إن الأحزاب السياسية المسيحية بدأت تتسلح وتدرّب مناصريها. في المقابل، أضاف سلامة أنه تم بناء صلات بين القادة الفلسطينيين وكمال جنبلاط وبينهم وبين الشيوعيين والقوميين العرب والقوميين السوريين والبعثيين. من ناحية أخرى، قال سلامة لدوفورنييه إن «أكثر ما يثير القلق» يتمثل في أن «الفكر التقدمي يزداد انتشاراً في الأوساط الطالبية، حتّى في أوساط الشباب المسيحي». يتعلق الأمر، حسب سلامة، «بموجة لا بد من انتظار ارتدادها، لأن هناك صعوبة في التصدي مباشرة لاتجاهات من هذا النوع». التداول بمعلومات كهذه يعني أن السلطات اللبنانية كانت قلقة من تزايد النفوذ التقدمي اليساري في الأوساط الشعبية.

عواقب عجز الدولة

في صيف العام 1970، خرج السفير دوفورنييه بتحليل مفاده أن عجز الدولة عن مواجهة النشاط الفلسطيني المسلح بات أمراً واقعاً من الصعب تجاوزه. في تقرير استعرض فيه نظرته حول أسباب العجز، كتب دوفورنييه قائلاً: «في كفاحه ضد الثورة الفلسطينية وحلفائها، اختبر لبنان بشكل قاسٍ نقص الحس الوطني لدى المسلمين، وثقل الحلقات التي تربطه بالعــالم العربي، وضعف مساعدات الغــرب». إن «(أزمة) التســلل الكثيف للفدائيــين الفلســطينيين وأعمالهم التخريبــية هي بالغة الخطورة لاسيما وأنها تقع في عالم تتــقاذفه تناقضات إيديــولوجية». دوفورنييه لاحظ أن أحد الأسباب الــتي منعــت لبنان من خوض مواجهة مفتوحة مع المقاومة الفلسطينية يتمثل في «التصرف الملتبس أحياناً للجيش، الحريص على المحافظة على أنصاره المسلمين».

البعض كان يدعو الجيش إلى استخدام القوة. هناك مَن اعتبر أن الجيش كان يمتلك ما يكفي من الإمكانات لردع وإضعاف الفلسطينيين. لكن الجنرال البستاني (قائد الجيش) كان يشترط، قبل القيام بخطوة من هذا النوع، «الحصول على أوامر خطية من جانب السلطة المدنية، وهو الأمر الذي لا يتجرأ أي وزير مسلم على التوقيع عليه»، بحسب ما ورد في تقرير السفير الفرنسي.

فرضية الأمن الذاتي

شكّل عجز الجيش، أو بالأحرى تردّده، دليلاً على عدم اكتمال بناء الدولة العصرية في لبنان، وعلى سطوة الطوائف على الحياة السياسية. فبدلاً من التفاف اللبنانيين حول مؤسسات الدولة، استسلموا لفرضية الأمن الذاتي أو الحماية الذاتية. بموجب هذه الفرضية، انخرط أهل الجنوب والقوى اليسارية والقومية العربية في الدفاع الشعبي عن القرى الأمامية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وذلك في ظل حياد الجيش اللبناني. من جانب آخر، استخدمت الأحزاب المسيحية شعار الأمن الذاتي وحماية المسيحيين من الخطر الفلسطيني، لكي تعزز نزعتها نحو التسليح وتطوير ميليشياتها.

للسفير الفرنسي تقييم يفيد بأن أحداث العام 1969 أظهرت أنه لم يكن بمقدور الجيش اللبناني «سوى الوقوف كحاجز بين الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين من جهة، واللبنانيين المحافظين من جهة ثانية». أضاف السفير في إحدى برقياته الديبلوماسية: «إدراكاً منهم لهذا الواقع وللأهمية المتزايدة للأسلحة التي بات يمتلكها الفلسطينيون وناشطو الحركات الثورية، بدأ القادة المسيحيون يهتمون، منذ تلك الفترة، بتسليح وتدريب مناصريهم». يكشف السفير أن «القادة المسيحيين (وحتى الأساقفة) لم يترددوا في التماس السفارات الصديقة، على أمل الحصول على أسلحة بأسعار رخيصة»، فيما كان الآخرون يلتمسون دولاً عربية وغيرها من دول المعسكر الاشتراكي من أجل الحصول على دعم عسكري…

كم كان صائباً الوزير فؤاد بطرس حين قال لرئيس الجمهورية شارل حلو، أثناء عملية اتخاذ قرار الرئيس في شأن الموافقة، أم لا، على «اتفاق القاهرة»: «سأجيبك بكلمتين إما أن لا تقبل به، وتندلع المواجهات الآن، وإما أن تقبل به الآن وتندلع الحرب بعد خمس سنوات، عليك أنت أن تختار ولن أزيد»، بحسب ما ورد في مذكرات بطرس. فالنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي كان حافلاً بالتطورات والعوامل التي تراكمت وأدّت إلى انفجار الحرب في العام 1975، بدءاً من تنامي النفوذ الفلسطيني، مروراً بتصعيد العمليات العدوانية الإسرائيلية، وصولاً إلى تقاعس السلطة عن إجراء الإصلاحات السياسية والاجتماعية اللازمة من أجل بناء دولة حديثة وقوية وديموقــراطية. الحــلقة الخامسة ستسلط الضوء على موقف فرنسا ومجلس الأمن إزاء السياسة الإسرائيلية العدوانية وتداعياتها على الوضع في لبنــان في النصف الأول من السبعينيات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى