اغضبوا!

قبل أيام، لم يكن أحد موجوداً. كنا شعباً مثقلاً بالخيبة. نلوك الألم بمرارة القدر. نظنّ أننا أبناء اللعنة. نساكن أوجاعنا ونصبر عليها. مَن هم فوق، أدنى من أن يُرجى منهم شفاء. هم العلة. هم المصيبة. هم آخرة لبنان واللبنانيين. هكذا كانت قناعتنا.

قبل أيام، كان لبنان موجوداً، كما كان من قبل. متروكاً لهم. هم يتصرّفون به، بوكالة طائفية ومذهبية مبرمة، كأنه من أملاكهم، والناس عندهم، مرابعون أو رعايا أو حاشية… وكان الناس يقلِّدون مواقفهم السابقة، ويسيرون على نهج «فالج لا تعالج». هذا هو لبنان. بل هذا لبنان لهم. لقد تخلّينا عنه في غفلة من ثقافة المواطنة وعقيدة الوطن. هكذا، غلبت «المزرعة» البلد. حكامه من نوع القراصنة، يجيدون القنص على مدار العمر، عمرهم، وأعمار ورثتهم من بعدهم.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. غادر «شعب» قليل العدد أماكن إقامته، حرَّر طرفاً من شارع في وسط العاصمة. كان لشعارهم «طلعت ريحتكم» وقع التنبيه. تكرّر الصوت مراراً. انضمت إلى الشارع مجموعات جديدة، كانت غاضبة بما فيه الكفاية. ضربهم عُسُسُ السياسة وعسس السلطة. صمدوا. فجّروا غضباً دفيناً. تلقوا بصدورهم قمعاً. منعوا سياسيين وتيارات من الاندساس فيهم. تطهروا من كل ما ومَن يمتّ إلى السلطة المزمنة، بوجوهها كافة، وتياراتها المعروفة، المنتظمة في صَفَّي «8 و14 آذار» وضفافهما الرثة.

النفايات شقت الطرقات لتصل إلى من يشبهها في السياسة. رأت الجموع القليلة آنذاك والمحتشدة في الشارع، أن النفايات خلف جدران السلطة وفي أجهزة الحكم وفي كل مكان تطأه أقدامهم وتلمُّ منه جيوبهم. دلونا على أن لبنان الصغير، هو «جمهورية الفساد العظمى» والفاسدون أحياء يُرزَقون ويحكمون.

وانقسم لبنان فريقين: النظام وأهله، لبنان وأحراره. انقسام صحي فريد. لا يشبه انقسامات الطوائف وتقسيمات المذاهب وتقاسم أهل السياسة. انقسام بين لبنان، وما تنص عليه قوانينه وما جاء في دستوره، وما يرسمان من حقوق وواجبات، وما يحددان من صلاحيات، وما يحيلان إلى حساب ومساءلة، وإلى قضاء يعدل، وسلطة تحكم ولا تتحكم، وإنماء يتوازن، وديموقراطية ترسو على مواطنة… انقسام بين لبنان هذا، وبين النظام وأهله، الذين عاثوا فيه خراباً ونهباً واقتساماً حتى بلغ حقبة النفايات، فبات لبنان الفريد من نوعه في العالم، بلد النفايات بلا أفق لحل، حتى ولو كان الحلّ نهباً لمحاصيل الزبالة.

فصل جديد قد بدأ، وقد يطول أكثر مما يشتهي أهل السلطة، الذين استعجلوا قمعه وحاولوا ركوبه. شباب وشابات وعائلات، دشّنوا غضباً كان منسياً أو كان مكتوماً أو لم يكن مجدياً. فصل جديد بدأ. قالوا لنا: «اغضبوا»، وها نحن فاعلون. سنمارس الغضب كل يوم. سننبذ أهل السلطة ونتعامل معها، كما يليق بمستواها السافل.

اغضبوا أيها اللبنانيون. والغضب ليس صراخاً مجانياً. سعره غالٍ جداً، هو غضب من أجل انتزاع حقوق اغتصبت وحقوق ديست وحقوق أُهملت وهو غضب من أجل محاسبة صارمة. محاسبة، إما تقوم بها أجهزة الرقابة الرسمية والقضائية (المستنكفة دائماً عن ممارسة العدالة)، وإما تقوم بها الجماهير الغاضبة، في «محاكم» على قارعة الطريق، بالشفافية المثالية، وتصدر أحكامها، بأهل العار.

لنا في ذمة السلطة، وفي ذمة من سبقها، حقوق مضطهدة ومسبيّة. حقوق نص عليها الدستور ونصّت عليها القوانين. الدستور ليس طائفياً. نص في مقدمته وفي موادّ كثيرة على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ونصّ على احترام الميثاق الدولي وشرعة حقوق الإنسان. نص على العدالة والكفاءة والإنماء المتوازن… اغضبوا. هذه حقوقنا. لقد أقاموا عار المحاصصة وبكوا على جداره كي يستعيدوا حقوق الطائفة. الدستور ساوى بين اللبنانيين، وأهل السياسة، أباً عن جد إلى ابن فحفيد، اغتصبوا حقنا ونسبونا إلى نظام التمييز الطائفي. قتلوا الكفاءة، قتلوا النزاهة، قتلوا المساواة، وأحيوا زبائنية كلبية، تربط المواطن بلقمة عيشه بثمن الكرامة وواجب الطاعة. بهذا النهج، خرّبوا الجامعة اللبنانية بعدما قسموها. أهل السياسة جعلوا الجامعة من أملاكهم. توزعوها، وللأسف، قبلت النخب الجامعية، في أكثريتها، أن تلتحق بالزعيم واللقمة، تاركة العالم والمعرفة للتفاوض على المناصب. لم تعُد الجامعة اللبنانية، لبنانية، هي جامعة الطوائف غير المتحدة. وكذلك التعليم الرسمي، كذلك الصحة، كذلك الدواء. لقد خرّبت هذه الطبقة السياسية كل ما يمتّ إلى الدولة بصلة الحقوق، وفضلت عليها القطاع الخاص الزبائني والمجزي والذي تغدق الدولة عليه من خزائنها ما تجبيه من أموالنا… لقد خربوا القضاء. جيّروه لهم. منعوا القضاء مَن أن يعدل. خربوا الأمن، ثم جاءهم الأمر، فالتأم. خربوا الاستشفاء. الاستشفاء الحكومي، عقارات مكوّمة، بلا إدارة ولا طبابة جدّية. المستشفى بُني كي يفشل. المستشفيات الخاصة تنمو وتعظم، على حساب المشافي الحكومية المعطوبة والموكلة إليها ممارسة الفشل.

اغضبوا. الزبالة اليوم وغداً لنا غضب من أجل كل حق. نريد الشاطئ اللبناني. فهو لنا. لم يعُد الشاطئ لبحر وناسه. صار جزءاً من عقار، ومحتلاً إما بقوة الأمر الواقع أو بخرق القوانين. لن ننسى أملاكنا البحرية والنهرية. ولن ننسى مواقع الكسارات المحميّة بغير القوانين، وما قامت به من تخريب فادح للبيئة.

نريد الكهرباء. هذه المؤسسة لنا. دفعنا من أموالنا ما أنفق عليها وما أنفق هدراً ضدها. هذه السلطة ومَن سبقها، لا تريد كهرباء. أكرّر، لا تريد كهرباء. تريد بيعها بفلس واحد، لزبانيتها، كما كانت قد فاحت رائحتها في عروض النفايات.. هذه ملكنا ونريد استعادتها وإصلاحها، لتضيء 24 ساعة على 24 ساعة، من دون مزايدات أو تفنيصات. نريد مياهنا. هذه الهبة الطبيعية هي ملكنا، ولا نريد بيعها. المياه لا تصلنا وهي وفيرة. ستصلنا بعد أن ندفع كلفتها مرتين، كالكهرباء، والتعليم، والصحة و…

من حقنا أن يكون لنا ضمان اجتماعي وصحّي يحترمنا ولا يظل تعامله مع المواطنين مهيناً وبدائياً. مؤسسات الدولة، التي هي لنا، أصبحت مغاور معتمة. وفي كل مغارة «جمهورية من الفضائح». يخدّروننا بحملات ومداهمات تبدو بعد أيام كمساحيق لتجميل الفساد الكبير.

من حقنا أن ننتخب، خارج القيد الطائفي. القوانين الانتخابية الطائفية كلها سيئة، لا ديموقراطية مع الطائفية، ولا عدالة مع الطائفية، ولا مساواة كذلك ولا وطن أيضاً… من حقنا أن نطالب بتطبيق الدستور، لجهة إلغاء الطائفية السياسية التي نص عليها «الطائف» وتجاهلت الأطراف كافة ذلك، ولم تأت على ذكره ولا مرة… من حقنا أن نتعاطى السياسة، بشرط ألا تكون ذيلية، لأفرقاء يتوارثون الزعامة ويتحالفون مع عصبة الطوائفيات وعصابات المال. فهؤلاء، ارتكبوا موبقة إجهاض هيئة التنسيق النقابية.

اغضبوا، أيها اللبنانيون. وليكن غضبكم من أجل انتزاع حقوقكم، الحق تلو الحق، لا تدعوا هذه «الطبقة» تنام على حرير صفقاتها. افضحوها. املأوا الشارع أحكاماً. انشروها على الملأ. ادعوا أصحاب المصالح والحقوق ليقفوا معكم. قولوا لأساتذة الجامعات وطلابها: «تفضّلوا. مكانكم هنا وليس على أبواب الزعامات، هذا، إذا فُتحت لكم». قولوا للكتّاب: أين أنتم؟ ما نفع ما تكتبون. الحبر هنا، لونه أحمر. اكتبوه معنا بغضب. قولوا للمفكرين: أهلاً بكم، لماذا تأخّرتم عن المسيرة؟ قولوا لأهل الفن، كفا طرباً بعيداً عن الشارع. تعالوا بموسيقاكم إلى حيث الحياة. الشارع هو وطننا الآن، ومن فوق بلاطه نسير إلى الوطن. تعالوا جميعاً، واغضبوا مع الغاضبين، ولا تدلّلوا على عجزنا، بأننا لا نستطيع إسقاط النظام. صحّ. هذا النظام عاصٍ ومتين. ولكننا لن ندعه يرتاح، وسننتزع منه حقوقنا. قوة غضبنا أقوى من أنيابه وأظافر أتباعه.

اغضبوا أشد الغضب، مع الحفاظ على السلمية، قدر المستطاع. الدفاع عن النفس مشروع. قولوا للسلطة: كنا نقول من قبل لا نريد شيئاً منكم. أما اليوم، فنحن نعلّمكم. اسمعونا جيداً. اليوم، نريد كل شيء منكم. نريد كل ما عندكم وكل ما معكم وما ملكت أيديكم ظلماً. مالكم هو مالنا. نريده مع الفائدة ومع إنزال العقوبة كذلك.

إن للحرية اليوم طعماً خاصاً. هذه الجموع حرّرها غضبها من اليأس والسكون والتبعية. فاليوم غضب وغداً أمر آخر. مَن يدري؟

إذا لم يكن ذلك كذلك الآن، فسيكون عاجلاً أم آجلاً. وإذا لم يكن ذلك أبداً، فلنا شرف الغضب وحق التمتع بالحياة. ففي لبنان، ما يستحق الحياة، والنضال من أجل هذه الحياة… الزمن رمل والمكان صلب. إننا ملتصقون بهذا المكان، بالغضب الضروري. هذا الغضب، هو خبزنا كفاف يومنا ودهرنا. فشكراً لمن بدأ هذه المسيرة، والعفو كثيراً، لأننا كنا من اليائسين والمقصّرين.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى