الأخلاق مسألة نسبية

لماذا هذا الشغف الذي يصل درجة الهوس لدى الرئيس الأميركي الحالي بالتغريدات المستفزة على موقع تويتر.. ألا تكفيه القنوات والطرق الرسمية المعتادة في الرد على خصومه ومنتقديه؟

إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الحالة التي يتفرد بها دونالد ترامب، مزاجا شخصيا وأسلوبا سريعا ومختصرا تمليه طبيعة العصر؟ وهل تعد هذه الطريقة نوعا من الشفافية والمصارحة أم شكلا من أشكال الشعبوية التي ينبغي أن تدينه أخلاقيا في الأسلوب قبل البحث في المحتوى والمضمون.

قال أحد المعلقين على موضوع تنامي الفضائح الأخلاقية في أوساط الزعماء والسياسيين أكثر من أي وقت مضى: لو كان أباطرة الحضارات القديمة يتسلون بتغريدات تويتر وغيرها من تقنيات التواصل على المواقع الالكترونية كما يفعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخصومه اليوم، لما وجدت تلك الانجازات والآثار التي نستمتع بمشاهدتها في متاحف العالم ثم أردف قائلا بجدية ” إن الأمر يتعلق أيضا بمنسوب الحريات وضرورة دفع الضريبة المتعلقة بالثورات الرقمية التي غيرت العالم”.

حتما هذا الأمر ليس تبرئة من جرائم أخلاقية ارتكبت في التاريخ القديم وما زالت تستمر في عصرنا، ولكن ليس بدبلوماسية التغريدات تعالج الأمور وتحاكم السياسات بل أن هذه المماحكات والمشاحنات من شأنها أن تعقد الأمور وتميعها فينصب كل فرد نفسه محققا وواعظا ومحاكما ومدعيا أيضا.. طالما أن الأمور صارت سهلة، مجانية ومسلية أيضا.

المحاكمات الأخلاقية سوق تتسع لمئات الدكاكين والبياعين والسماسرة، إذ لا يمكن حصر هذه الادعاءات التي تقام كل يوم باسم الأخلاق، خصوصا ضد زعماء ومشاهير، وهو أمر يتطلب الوقوف عنده: لماذا لا يتهم في أخلاقهم عادة إلا المشاهير؟ الجواب قد يبدو بسيطا ومفاده أن طبيعة أدوارهم ومسؤولياتهم تجعل الأنظار مسلطة عليهم.

الحقيقة أن مثل هذا الجواب غير كاف وغير مقنع بما فيه الكفاية، ومرد ذلك يتعلق بأسباب أخرى أهمها حالات التظلم والتهافت والابتزاز وطلب الشهرة، وهي أمور لم تعد خافية على أحد.

واهم من يعتقد بأن استبعاد الأخلاق هو من صلب العمل السياسي، لكن الأمر يرتبط بمعايير وأولويات يصعب ضبطها بسهولة، ذلك أن قيادة الدول والمجتمعات لا تحتاج إلى كهنة بقدر ما تحتاج إلى توفيقيين من نوع خاص، فالإيطالي مكيافيلي، صاحب كتاب “الأمير” (1469 – 21 يونيو 1527)، شدد على أن الدولة القوية تقوم على وازعٍ أخلاقي، وإن استخدم الحاكم الوسائل المنافية للأخلاق للوصول لأهدافه، حيث أكد مكيافيلي أن ولاء المواطن مُرتبط بمقدار خدمته للمجتمع.

ليس دفاعا عن المتورطين في قضايا أخلاقية من السياسيين بل على العكس، فمن الواجب إدانة هؤلاء جنائيا ونعتهم بالحمقى والمثيرين للاشمئزاز بحكم كونهم عبيدا للمصالح الشخصية والنزعات الأنانية، لكن هدف السياسة هو المحافظة على قوة الدولة والعمل على توسيع نفوذها، وهذا لا يتم بوجود وازع ديني أو أخلاقي، ولهذا فقد أعجب الناس عبر التاريخ بالحكام الذين توسع سلطانهم غير آبهين بأي رادعٍ كان، ومن تم قال الحقوقي الفرنسي موريس دوفيرجيه، عندما قارن بين أرسطو ومكيافيلي: “لقد أوجد أرسطو الركن الأول في علم السياسة وهو اعتماد منهج الاستقراء والملاحظة، وأوجد ميكيافيلي الركن الثاني، وهو المنهج الموضوعي المجرد من الاهتمامات الأخلاقية”.

جمهور مواقع التواصل الاجتماعي يشترك حتما في النفخ في كير الإشاعات وتبادل الاتهامات، وهو ليس في منأى من هذا السلوك الذي قد يجانب الأخلاق ويبتعد عن قيم احترام خصوصيات الآخر وعدم الحكم على الأشياء قبل التبصر وانتظار رأي القانون.

وفيما يخص سلوك الرئيس ترامب الذي لم يعهده الجمهور الأميركي، ورأى فيه الكثير نوعا من الرعونة والاستهتار بالقيم البشرية، يتذكر له متابعوه مواقف تبدو صادمة لخصومه ومنتقديه بل ويرى فيها كثيرون نوعا من الوضوح والصراحة والوفاء للقيم التي تربى عليها المجتمع الأميركي فمنذ فترة، أدان الرئيس الأميركي جريمة قتل مواطنين أميركيين كانا يحاولان الدفاع عن امرأة مسلمة تعرضتا لإهانات عنصرية على متن قطار في مدينة بورتلاند ولاية أوريغون. وكتب ترامب تغريدة تقول “الاعتداءات العنيفة التي وقعت في بورتلاند غير مقبولة فالضحيتان وقفا في وجه الكراهية والتعصب”.

القول باستحالة اللقاء بين السياسة والأخلاق، مسألة فيها الكثير من التجني بل إن العائد إلى مفهوم هذه الثنائية من وجهة نظر فلسفية، يدرك أن السياسة من أنبل الأفعال الإنسانية، ذلك أنها تتعلق بمسؤولية الفرد تجاه المجموعة فهي من أنقى السلوكيات الأخلاقية من حيث إعادة ترتيب الأنفع ثم الأقل نفعا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى