الإخوان والسلفية.. الفارق في الخطاب

تختلف مصادر المعرفة لدى التيار الإخواني، بشكل كبير، عن مصادر المعرفة لدى التيار السلفي (في شقيه العلمي/ التقليدي أو «الجهادي»)، الذي يتمركز أساساً في الخليج العربي، أو في شبه الجزيرة العربية، منذ عقود مضت، ولكنه اليوم، نجد أتباعه في ربوع العالم.

صحيح أننا نجد بعض القواسم في الأدبيات العقائدية والفقهية التي ينهل منها التياران معاً: الإخواني والسلفي، ولكن، بخلاف التيار السلفي، حيث النهل من مرجعيات أدبيات محدودة وشبه مغلقة، ثمة انفتاح نسبي في الأدبيات التي ينهل منها الفاعل الإخواني.

التشابه في القراءة

التياران معاً، يكادان يُبجلان قراءة الشرح والتفصيل في «العقيدة الطحاوية» و«العقيدة الواسطية» لابن تيمية، لدرجة تدريسهما تدريساً عقدياً، على الرغم من أن هاتين العقيدتين ليستا من باب الإجماع، ولكن التيار الإخواني، لم يتوقف فقط عند النهل من هذه الأدبيات، بل نجد أتباعه ينهلون أيضاً من أدبيات القطبين المصريين (سيد قطب ومحمد قطب) في المقام الأول، قبل تطبيق قراءات سيد قطب على الخصوص، بخلاف السائد لدى أتباع «السلفية الجهادية» مثلا.

كما يقرأ أتباع التيار الإخواني أعمال أبي الأعلى المودودي، وحسن الهضيبي، وحسن الترابي، وراشد الغنوشي. بل وصل الأمر إلى النهل من أدبيات رموز تيار اللاعنف في الساحة العربية، ونخص بالذكر السوريين جودت سعيد، وخالص جلبي، وفي فترة لاحقة، أصبح أتباع التيار الإخواني ينهلون من أعمال مالك بن نبي، وطه جابر العلواني، وهناك من تماهى -نوعاً ما- مع مدرسة «أسلمة العلوم»، التي تحمل اسم «المعهد العالمي للفكر الإسلامي».

وواضح أن مُجمل هذه الأسماء غير متداولة في التربية السلفية الفقهية والعقائدية، بل إن بعض هذه الأسماء يتم شيطنته من قبل التيار السلفي، في شقه «العلمي/ التقليدي» على الخصوص، ولنا أن نتصور ما الذي يصدر عن التيار «السلفي الجهادي» في هذا الصدد: لنقل إن التيار الإخواني ظلَّ يحاول البدو متشبثا بمضامين كتاب «دعاة لا قضاة» لحسن الهضيبي، مقابل تشبث التيار السلفي («الجهادي» بالتحديد) بمضامين كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، وهنا تختلف المآلات والمسارات.

يكفي تأمل بعض المصطلحات اللصيقة بالخطاب السلفي، ومقارنتها مع مصطلحات التيار الإخواني، فالأحرى مصطلحات التديّن الحنيف عند عامة وخاصة المسلمين، حتى تتضح أكثر معالم التصلب والتشدد التي توجد في بنية الخطاب السلفي في شقه المتشدد، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مفاهيم «الولاء والبراء»، «الحاكمية»، «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، «التترس»، وغيرها من المصطلحات، ونجد الأدبيات الإخوانية، والتي بالكاد تراهن على عالمية وشمولية المرجعية الإسلامية، ولكن من منظور سياسي أو دعوي أو تربوي، وليس من منظور «جهادي واضح»، وحتى من منظور حُلم «دولة الخلافة» الذي يُميز أدبيات مُجمل الحركات الإسلامية، وهو حُلم مؤجل اليوم بسبب إكراهات اللحظة، فإننا لا نعاين سيادة الخطاب العقدي المتشدد الذي يصدر عن أبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم «داعش».

منظور الوسطية

من منظور الوسطية المُميزة للتدين الإسلامي، فإن المرجعية العقدية والفقهية للتيار الإخواني تبقى الأقرب إلى الوسطية من المرجعية السلفية، سواء كانت سلفية رخوة (Soft) أو صلبة (Hard) ، ولكن، عملياً، وفي الجهاز المفاهيمي للتديّن الإخواني، نسقط في خانة اختزال الإسلام، أو الدين الإسلامي، أو المرجعية الإسلامية، فقط في المرجعية الإخوانية المعنية، في هذا المجال التداولي أو ذلك، بل يصل الأمر إلى بروز صراع على النطق باسم المرجعية الإخوانية في الدولة المسلمة نفسها، وتالياً، نسقط على الأفق البعيد في الاختزال المفاهيمي أو «الإبستيمي» (النظام المعرفي) نفسه للتديّن الإسلامي، ذلك المُميّز للجهاديات، وفي مقدمتها تنظيم «داعش».

وجود هذا الفارق الجوهري في طبيعة الأدبيات العقدية والفقهية التي ينهل منها التياران، ومن دون التقزيم من تبعات معالم التسلّف التي أصابت لاحقاً التيار الإخواني، كما توقف عنده بالتفصيل الباحث المصري الراحل حسام تمام في دراسة مرجعية في هذا الصدد، يُعتبر من الناحية النظرية، أرضية علمية خصبة لكي تنخرط الأقلام الإخوانية في نقد المشروع السلفي، في شقيه: السلفي العلمي و«الجهادي»، وهذا أمر لم يتم بالمرة قبل منعطف أحداث «الحراك العربي»، وتمَّ بشكل محتشم مباشرة بعد اندلاع هذه الأحداث لاعتبارات مركبة.

لم ينخرط التيار الإخواني في الرد على «الجهاديات» حتى في ذروة أعمال «الجماعة الإسلامية» وجماعة «الجهاد» في مصر، وذلك قبل صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، بل إنه يرد اليوم وينخرط في معركة عقدية ومعرفية غير مؤهل لها.

النموذج التفسيري التآمري

لعل هذا المأزق المفاهيمي لدى التيار الإخواني، يُفسر أحد أوجه التعامل الذي لجأت إليه الأقلام الإخوانية في الساحة العربية، في معرض قراءة وتفسير ظاهرة صعود نجم «داعش»، سواء عبر اللجوء إلى خيار المؤامرة، أو التلويح بالأبعاد السياسية لظهور التنظيم بشكل يخدم في الأنموذج التفسيري، المشروع الإخواني:

أـ في الشق الأول، أي الخاص بالرهان على القراءة المؤامراتية، من قبيل أن ظاهرة «داعش» مجرد مؤامرة أمريكية لتكريس مشاريع زعزعة أوضاع المنطقة، أو أنها مؤامرة غربية (صليبية صهيونية) من أجل تشويه صورة الإسلام بشكل عام، والإسلاميين بشكل أخص، يسقط التفسير الإخواني في مأزق الهروب إلى الأمام، لأننا بهذا الخيار/ التفسير، نساهم بشكل كبير في تأجيل المعركة الكبرى التي تواجه العقل الإسلامي، أي معركة «الاشتباك» العقدي والفقهي مع بعض أدبيات المدونة الفقهية عند المسلمين، وتحديداً «الاشتباك» مع الأدبيات التي أنتجت لنا «الجهاديات»، من قبيل تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش».

بمعنى آخر، حتى إذا سَلمنا بوجود مُحدِّدات أو أيادٍ أجنبية/ غربية في صعود تنظيم «داعش»، فهذا أمر مرتبط بحسابات ورهانات صناع القرار في الغرب، وهذا أمر بَدَهي في نهاية المطاف، لولا أنه بَدَهي أيضاً أن للمسلمين مسؤولية كبيرة في مواجهة الأدبيات التي أنتجت «داعش» وغيرها من «الجهاديات» التي تُجسّد اليوم أقصى مقامات «اختطاف الإسلام» من أهله.

ب – في الشق الخاص بالقراءات السياسية، البعيدة من النقد العقدي، نستشهد في هذا المقام ببعض مضامين قراءة، حررها الباحث نواف القديمي، مُتتبع لمعالم التديّن الإخواني والسلفي، ومحسوب على المرجعية الإخوانية، حيث توقف ملياً عند أهم أسباب العنف والتوحش، والإعدامات الجماعية، وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث، وتعذيب الأسرى، والصلب، ذلك الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية، ملخصاً إياها في «ظروف نشأة هذا التنظيم في العراق»، ولكنه سَحَبَ البساط عن أي مرجعية عقدية تُشرعِن القيام بهذه الأعمال الوحشية باسم «المرجعية الإسلامية».

بل أشار الباحث إلى أنه يمكننا، اليوم، أن «نعتبر أن «داعش» يعيش مرحلة «الدعوة»، بكل تطرّفها ونضاليتها وعنفوانها، لا مرحلة «الدولة» بواقعيتها وحساباتها»، وأن «الأفكار و«التصورات الشرعية» ليست هي من يقود قاطرة داعش، لكنها مجرد مظلة لتسويغ الأفعال ومنحها مشروعية»، مختتماً مقالته المطولة بما توقفت عنده أغلب القراءات النقدية الصادرة عن الأقلام المحسوبة على المرجعية الإخوانية، أي التوقف عند الأبعاد السياسية (سؤال الحكم/ الدولة) في المنطقة، معتبراً أن «قصة داعش ليست مرتبطةً فقط بهويات مغلقة… ولا جماعة تعيش حُلم التاريخ… بل هي، أيضاً، نتيجة واقعٍ عربي صعب، سُدت به كل نوافذ الأمل، وقُمعت به أشواق الشعوب نحو التحرر والكرامة، وأُهينت الشريعة، باستبعادها أو استخدامها… وثورة استصحبت فصولاً من فقهٍ سياسيٍ، نتج في زمن الاستبداد والمُلك العضوض، تُشرَّع فيه الغاية على حساب الوسيلة، وتُرتكب فيه الموبقات، تحت لافتة «المقصد الشرعي».

مضامين هذا الأنموذج التفسيري المحسوب على المرجعية الإخوانية، تكاد تكون أحد القواسم المشتركة في أغلب القراءات الصادرة عن الكتاب والباحثين والإعلاميين الذين ينتمون إلى حركات وأحزاب «الإسلام السياسي»، أو إلى «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، أو ينتمون إجمالاً إلى المرجعية الإخوانية.

خلاصة من بحث منتصر حمادة ‘داعش النقد الإخواني والسلفي للجهاديات’، ضمن الكتاب 92 (أغسطس 2014) ‘داعش: الأفكار التموين الإخوان’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى