تحليلات سياسيةسلايد

الاستراتيجيّة الغربيّة في أوكرانيا.. تقويض الحلول الدبلوماسيّة

الاستراتيجيّة الغربيّة ….. لا يمكن اعتبار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا نتاج تجاذبات أرخت بثقلها على العلاقات الثنائية المعاصرة بين الدولتين، إذ إنَّ ما شهدته هذه المنطقة من تنافس دولي عبر التاريخ يدلّ على أهميتها الاستراتيجية.

تشكّل أراضي ما يعرف اليوم بالدولة الأوكرانية محور توازن القوي الإقليمي منذ القرن الرابع عشر، إذ إنَّها كانت دائماً ساحة لحروب القوى المتنافسة على منطقة البلقان. وبذلك، تعرَّضت لعمليات ضمّ وفرز، وفق ما تقتضيه التوازنات والمصالح المتناقضة بين القوى الإقليمية التي كان من أبرزها في تلك الحقبة بولندا وليتوانيا وروسيا.

وبالاستناد إلى نظرية ماكيندر حول قلب العالم، يمكن ملاحظة أنَّ التوازن الدولي الذي أرساه الاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة كان قد استند إلى نفوذه في شرق أوروبا، والذي أدى بعد انحساره إلى تمدد غربي أرسى نظاماً أحادياً تقوده الولايات المتحدة عبر حلف شمال الأطلسي، أمكن من خلاله تقدير أنَّ من يسيطر على تلك المنطقة، أي شرق أوروبا، يضمن تفوقاً في أوروبا والعالم.

ولذلك، في نتيجة الموقع الاستراتيجي لأوكرانيا في شرق أوروبا كحاجز بين الأراضي الروسيّة بمسمياتها القيصرية والسوفياتية والروسية الحديثة من ناحية، ودول أوروبا الغربية من ناحية أخرى، شهدت الأراضي الأوكرانية تجاذبات دولية متتالية، ولم تشهد استقراراً سياسياً وأمنياً وتقدماً اقتصادياً حقيقياً إلا حين كانت ضمن دول الاتحاد السوفياتي، إذ عمد بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية وقضائه على القوميين الأوكران الذين تحالفوا مع هتلر إلى ضمّ شبه جزيرة القرم إليها في العام 1954، إضافةً إلى تخصيص 20% من ميزانيته لها، بحيث تحوّلت بعد ذلك إلى أحد أهم اقتصادات أوروبا بفضل إنتاجها الصناعي.

ولأنَّ منطلقات العلاقات المميّزة التي دأب القادة السوفيات على نسجها مع أوكرانيا، من حيث عمق الروابط الثقافية واللغوية والعائلية، إضافةً إلى موقعها الاستراتيجي الحاسم والحاجز بين الاتحاد السوفياتي والغرب، لم تفقد جاذبيتها أو قيمتها، فقد أمكن تقدير الرؤية الاستراتيجية التي حكمت العقل الاستراتيجي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعاطيه مع التوجهات التي حاولت السلطات السياسية في كييف أن ترسيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ إنَّها ربطت بين المجال الحيوي والأمن الإقليمي الروسي من جهة، والاتجاه السياسي الداخلي والخارجي للسلطة في كييف من جهة ثانية.

وإذا كانت أوكرانيا قد سعت منذ تسعينيات القرن الماضي للتوجّه غرباً ومحاولة الاندماج في القارة الأوروبية وحلف شمال الأطلسي، فإنَّ الاتحاد الأوروبي، نتيجة فهمه محددات العقل الاستراتيجي الروسي، حدَّد سقف طموحه في علاقاته مع أوكرانيا ضمن محاولة تكريسها كحاجز مانع لتمدّد نفوذ الدولة الروسية باتجاه الغرب.

ولذلك، إنَّ بعض دول الاتحاد الأوروبي الوازنة، مثل فرنسا وألمانيا، مارست دوراً مفرملاً لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، كما أنها لم تقارب بجدية دعوات أوكرانيا المتكررة لقبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، مع تأكيدها أهمية ضمان استقلال أوكرانيا وسيادتها.

وعلى نقيض الموقف الأوروبي الواقعي والبراغماتي، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية متفهّمة لضرورة مقاربة الملف الأوكراني ضمن محددات التقدير الأوروبي للسلم والأمن الإقليميين في القارة، إذ بقيت الاستراتيجيات الأميركية في القارة الأوروبية محكومة لتوازن القوى العالمي الذي ثبت أحادية أميركية تفترض ضرورة محاصرة روسيا، ومنعها من محاولة تعديل موقعها في النظام العالمي الجديد.

وبمراجعة التحليلات الأميركية، على اختلافها، فإنها تفترض أنَّ الدّولة الروسيّة قد تكون أكثر ميلاً إلى المخاطرة في الانغماس في أي نزاع مع الولايات المتحدة الأميركيّة، فاليقين الروسي بوجود استراتيجية أميركية تهدف إلى احتواء الدولة الروسية، عبر حرمانها من تحقيق مجال حيوي يضمن أمنها ويعبّر عن إمكاناتها، يجعلها أكثر استعداداً للانخراط في نزاع تعتبره الإدارة الروسية حيوياً أو مصيرياً، لناحية مساهمته في إعادة إحياء موقعها القطبي.

وإذا ربطنا هذه الفرضية بما تمتلكه الدولة الروسية من إمكانيات هائلة، فقد يجعلها الأمر أكثر ميلاً إلى التهديد بما تمتلكه من قدرات نووية وسيبرانية أو عبر نفوذها في أماكن متفرقة من العالم. ولأنّ استراتيجية الردع النووي ستكون حاضرة عند أيِّ اصطدام مع الولايات المتحدة، فإنَّ استدراجها إلى معركة جانبية تستنزف قوتها سيشكل الأداة الأكثر فعالية في إدارة صراع مع قوّة بحجمها.

وبناءً عليه، إنّ الانطلاق في استراتيجية محاصرة روسيا، مع مراعاة عدم الاصطدام المباشر معها، ترجمته الإدارة الأميركية عبر الدفع لتوسيع حلف شمال الأطلسي نحو الشرق؛ ففي قمة بوخارست 2008، أقر حلف شمال الأطلسي بنيّته ضمّ أوكرانيا وجورجيا إليه. وبطبيعة الحال، إنّ توسّع الحلف نحو أوكرانيا تبعه في العام 2014 توقيع الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، بجهود بريطانية، اتفاقية شراكة لتعزيز الاندماج الاقتصادي لهذه الدولة مع نظيراتها الأوروبية.

وعلى الرغم من أنَّ الأوروبيين أعلنوا أنَّ مسار انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي سيكون مساراً شاقاً وطويلاً، بحيث إنَّها بحاجة إلى مكافحة الفساد المستشري في مؤسساتها وتنفيذ إصلاحات قانونية واقتصادية، إضافةً إلى الإشكالية التي فرضها ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، فإنَّ مطالبات زيلينسكي بتحديد جدول زمني لإنهاء إجراءات الانضمام واستعداده لتحمّل تبعات هذا القرار مهّدا لتحقيق الرغبة الأميركية في إقحام روسيا في حرب جانبية تستنزف قواها وتعوق مسارها نحو تحقيق توازن جديد يحلّ مكان الأحادية الأميركية.

وفي نتيجة إطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التقت الأهداف الأميركية مع المخاوف الأوروبية، إذ تملَّك الاتحاد الأوروبي خوف من أن يشكل الانتصار العسكري الروسي السريع في أوكرانيا دافعاً لتكرار التجربة في دول أوروبية أخرى. وعليه، أمسى استنزاف القوات الروسية عبر عملية طويلة الأمد في أوكرانيا من الضرورات الأوروبية من أجل الحؤول دون أي انتصار روسي سريع يكشف خاصرة أوروبا الضعيفة في البلقان.

وبناءً عليه، إنّ القرار الروسي بتنفيذ عملية عسكرية تستهدف حماية المجال الحيوي الروسي في أوكرانيا قابله دعم غربي لزيلينسكي، إذ توالت جرعات الدعم المعنوي عبر المساعدات المالية ودعوته للخطاب أمام البرلمان الأوروبي، إضافة إلى الوعود الأميركية بتسريع عملية الانضمام إلى الناتو، وتنظيم عمليات إرسال شحنات مهمة من السلاح الفردي الدفاعي الضروري للصمود في وجه الآلة العسكرية الروسية، مع أهمية الإشارة إلى أنَّ هذه الوعود تزامنت مع جولات التفاوض الروسية الأوكرانية، بما يحدد غايتها ووظيفتها في حثّ الطرف الأوكراني على التصلّب في موقفه التفاوضي، وعدم تقديم التنازلات التي يطلبها الجانب الروسي، إضافةً إلى جعل الجيش الأوكراني قادراً على إطالة أمد العملية العسكرية في أوكرانيا وتأخير الحسم العسكري الروسي فيها.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى