الاطرش بالزفة

 

ها أنذا أتجاوز التسعين و أفقد يوما بعد يوم طاقتي على السمع حتى صرت كما يقال كالأطرش في الزفة ، فالكل من حولي غارقون في الجدل والصياح والمواعظ والشتائم و الخطابات وأنا أصغي جهدي ولا أسمع سوى شذرات غير مفهومة فما كان مني إلا أن مضيت إلى الطبيب المختص الذي نصحني  باستخدام ” سماعة ” أولجها في أذني اليمنى فتنقذني من الطرش وتضعني في وسط الزفة مستمعاً لكل ما يدور حولي.

و هذا ما صنعته فعلا بعد الفحوص والإختبارات ، وجربنا السماعة عند صانعها فاستطعت سماع همساته وهو يختبر سمعي قائلاً : هل تسمعني جيداً ياأستاذ شوقي؟.. فأخذتني الدهشة ، فأجبت : أسمعك جيداً .. و هكذا عدت إلى قدرتي على السمع و قد لاحظت ذلك أكثر فأكثر وخاصة حين خرجت إلى الشارع فأدهشني وأزعجني في الوقت ذاته ما أسمعه من الضجيج العالي فما كان مني إلا أن سألت من كان معي  ماذا يحدث حولنا و لماذا كل هذه الضجة ؟ فضحكوا و قالوا لي أن أطمئن لأنها الضَجة العادية للشارع !.

و مرت الأيام علي ، و لم أتعود على الضجيج الذي بات يصاحبني في كل حوار أو حركة ، وصار جهاز التلفزيون على الأخص الأقدر على تسليتي و إخباري بما يدور في العالم من مظاهرات صاخبة ومناقشات فارغة ، وحتى الأغاني التي أحبها صارت قنابل مدوية في مسمعي ولم أنجح في جعل سماعتي تنقلني إلى قدرتي الطبيعية على السمع كما كانت من قبل شيخوختي فكان جهاز السماعة يدّوي إذا رفعت قدرته و يختفي تقريبا إذا أخفضتها و حين كنت أخرج من بيتي يلاحقني الصياح و أكتشف أكثر فأكثر جنون البشر ووقاحتهم في المناقشات كأنها منازعات فأعود إلى داري فإذا بي أسمع أهلي ينادونني بصوت عالي ضاحكين من عدم قدرتي على فهم دعوتهم إياي للطعام أو إستقبال الضيوف …

هكذا تحول العالم من حولي إلى مظاهرات صاخبة لا تهدأ إلا حين أنزع سماعتي إستعدادا للنوم ، فصرت أنزعها حتى في حال اليقظة حتى ولو استاء من يحدثني من عدم قدرتي على فهم صوته و حديثه فأضطر مجددا إلى إستخدام السماعة و الإصغاء إلى التهريج و نشرات الأخبار المزعجة و المخيفة أحيانا و إلى صياح الناس من حولي و هم يتخاصمون و يتجادلون  وإلى آلاف السيارات التي تقتحم خلوتي بتزميرها و هديرها إلى أن ضاق خلقي أخيرا فنزعت عني سماعتي و فضلَت عدم إستخدامها إلا مضطرا و يوما بعد يوم بدأت أستطيب الهدوء و السلام و السكينة و الصمت التام و أبقى في الدار فلا أخرج إلا نادرا ، و أتفاهم مع أهلي بالإشارة ، و هكذا و جدتني أسعد ما أكون و قد إستغنيت عن الزفَة الصاخبة التي لا فرح حقيقي فيها  ولو صرت كالأطرش في زفة لا تعنيني إطلاقا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى