الاقتصاد الروسي في مواجهة خطر الدولرة

أجرى الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، مقابلة مع مجلة «در شبيغل» الألمانية قال فيها «ان الغرب يعزل روسيا عن المشاركة في إيجاد حلول لمشكلات عالمية، من مكافحة الإرهاب إلى حماية المناخ. فمن له مصلحة في ذلك؟» وحذّر من أن أي نزاع بين روسيا والغرب سيؤدي إلى حرب نووية.

وفي ضوء تحذيرات غورباتشوف، الذي يُعتَبر من ألد خصوم فلاديمير بوتين، ذكرت جريدة «غارديان» البريطانية انه خلال احتفالات الميلاد ورأس السنة الجديدة، أجرى الجيش الأميركي مناورات خاصة لحماية واشنطن من احتمال هجوم مفاجئ لصاروخ مجنح روسي جديد قادر على حمل سلاح نووي ويستطيع الالتفاف حول حقول البث الراداري الإنذاري، وتم التحضير لهذه المناورات تسعة أشهر كاملة. وسبب التخوف هو غواصات روسية تحمل صواريخ مجنحة قادرة على القيام بـ «غارات» مفاجئة من حدود المياه الإقليمية الأميركية في المحيط الأطلسي، وتخشى القيادة الأميركية أن تكون هذه الغواصات الروسية بدأت تحمل الصاروخ المجنح الجديد.

ولكن، على الصعيد الاقتصادي البحت، فإن السياسة المتشددة لأوباما تستند إلى وقائع ملموسة، فهناك إجماع على وجود موجة متصاعدة من خطر الدولرة تهدد الاقتصاد الروسي.

وقد كتبت وكالة الإعلام الروسية RBK انه بعد هبوط أسعار النفط، فإن انهيار الثقة بالروبل أدى إلى «تنشيط» دولرة الاقتصاد الروسي. وأن المواطنين الروس والشركات الروسية بدأوا، على نطاق جماهيري واسع، بتحويل مدخراتهم وحساباتهم الاحتياطية إلى عملات أجنبية، بسبب التخوف من الانخفاض الإضافي لسعر صرف الروبل.

وفي السنة الماضية 2014 فاق حجم انحسار الرساميل في روسيا كل التوقعات إذ بلغ 150 بليون دولار بالمقارنة مع 61 بليون عام 2013. وفسر البنك المركزي ذلك بضرورة تسديد الديون الخارجية للشركات في ظروف محدودية الوصول إلى أسواق العملات الأجنبية. وهذا هو السبب لنمو الودائع بالدولار، ولازدياد شراء العملات الأجنبية من قبل المواطنين.

وجواباً على سؤال لوكالة RBK قال أحد الاقتصاديين إن تحويل المدخرات إلى عملة أجنبية هو أحد أبرز علامات دولرة الاقتصاد. وهناك علامة أخرى هي الانتقال نحو التسعير بالدولار، أو بـ «وحدات مشروطة»، وهو ممارسة بدأت السنة الماضية وأخذ يطبّقها الكثير من المحال التجارية.

وبحسب المعطيات التي قدمها البنك المركزي فإن حجم الإيداعات بالعملة الأجنبية في روسيا في العشرة الأشهر الأولى من السنة الماضية قد ارتفعت بنسبة 40 في المئة، وشكلت نسبة 31.5 في المئة من مجمل الإيداعات في البنوك الروسية. وهي أعلى نسبة منذ ذروة الأزمة المالية- الاقتصادية في 2008- 2009. وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا يأخذ في الاعتبار تخفيض قيمة الروبل، وإذا استمر سعر الصرف في الانخفاض فإن الودائع بالدولار سوف تزداد.

وبحسب إحصاءات وكالة RBK فإن القيمة الدولارية للودائع بمختلف العملات الأجنبية في روسيا قد ارتفعت في العشرة الأشهر الأولى من عام 2014 بنسبة 9.6 في المئة وبلغت 175.2 بليون دولار. والعامل الأساسي لهذا النمو هو المؤسسات والمنظمات التي ارتفعت ودائعها بالعملات الأجنبية 19.9 في المئة إلى ما يعادل 83.9 بليون دولار. أما الودائع الشخصية فارتفعت بنسبة 1.6 في المئة إلى 91.3 بليون دولار.

وهناك مؤشر أعلنه البنك المركزي وهو أن المواطنين اشتروا نقداً 33.8 بليون دولار، لم يصل أغلبها إلى البنوك. ويعلّق كبير الاقتصاديين في المؤسسة المالية الروسية «سيستيما» يفغيني نادورشين أن الاقتصاد الروسي مهدد ليس فقط بتخفيض سعر الروبل بل وبانهيار النظام البنكي.

وبدوره يقدّر المحلل الاقتصادي أوليغ كوزمين أن الدولرة ستبلغ نسبة 50 في المئة في عام 2015 إذا ثبت سعر برميل النفط على 40 دولاراً.

وفي هذا السياق يتوقف المحللون عند نقاط سيكون لها شأن كبير في مستقبل الاقتصاد الروسي والعالمي ومستقبل الوضع الدولي برمته، وهي:

1- إن الهجوم الذي شنّه الرئيس أوباما ضد الاقتصاد الروسي، يدل على الانزعاج الشديد للإدارة كما وللمؤسسات المالية والاقتصادية والعسكرية الأميركية من توقيع الرئيس بوتين أثناء زيارته الصين في أيار (مايو) الماضي 46 اتفاقاً اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، أهمها قيام روسيا بتزويد الصين بالغاز الطبيعي لمدة 30 سنة، قابلة للزيادة في الكمية ولتجديد المدة. كما اتفق على مشاركة الصين في تمويل مشاريع إنتاج عسكرية ضخمة، ومشاريع إنتاج طائرات الشحن الضخمة البعيدة المدى، ورفع مستوى التبادل التجاري في شكل مفتوح بين البلدين، ولهذه الغاية ستقوم الصين بتمويل إنشاء خط قطار حديث فائق السـرعة بين بكين وموسكو (حوالى 7 آلاف كلم) بكلفة لا تقل عن 240 بليون دولار. واتفق البلدان أن يتم التعامل المالي بجميع هذه الاتفاقات بالعملة الوطنية لكليهما (أي الروبل الروسي واليوان الصيني) وليس بالدولار.
من شأن هذه الاتفاقات التأسيس لمحور روسي- صيني، اقتصادي- عسكري، ضمن مجموعة البريكس. وهو ما يجعل الموقف العسكري والسياسي للصين قوياً جداً، بمواجهة القوات الأميركية في الشرق الأقصى وبمواجهة اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، بالاعتماد على القوة العسكرية الكاسحة لروسيا. كما أن الروبل الرخيص واليوان الرخيص هما مصدر تشجيع للبلدين العملاقين لزيادة وتوسيع التعاون بينهما. ومن وجهة النظر هذه فإن رخص الروبل مرحلياً هو مصدر قوة للاقتصاد الروسي وليس العكس.

2- حتى السنة الماضية كان يتم دعم سعر محدد للروبل، مع هامش ضيق للحركة، عن طريق تدخل البنك المركزي، شارياً أو بائعاً للدولار. وكان دعم الروبل يكلف الدولة القسم الأكبر من مداخيل بيع النفط والغاز وغيرهما. وكانت الدولة تؤيد هذا النهج انطلاقاً من المبدأ الاقتصادي الصحيح وهو «التكامل الاقتصادي» مع الخارج، بحيث تصدر روسيا الخامات والمنتوجات العسكرية وغيرها، وتستورد منتجات أجنبية كثيرة. وجاءت «وخزة الدبوس» أو ما سمّي «العقوبات الاقتصادية الغربية» ضد روسيا، وخصوصاً «صدمة» عدم تسليم فرنسا لحاملة الهيليكوبترات الحربية (التي كانت تشكل جزءاً من خطة عسكرية روسية عالمية كاملة) لتدفع روسيا باتجاهين:
تشجيع الإنتاج الوطني والاستغناء الأقصى عن الاستيراد إلا ضمن الضرورة القصوى والاتفاقات الثنائية.
التوجه نحو الاستغناء شبه التام عن الاستيراد من كتلة الدول الغربية التي تتعامل بالدولار، والاسـتعاضة عنها بالتوجه لتوسيع الاستيراد والتعامل والتبادل مع دول البريكس وغيرها من الدول الشرقية.

– نتيجة هذين الاتجاهين يمكن القول إنه «بفضل» العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، عمد البنك المركزي الروسي إلى تسريع تنفيذ قراره المتخذ سابقاً بـ «لبررة» الروبل، أي رفع الدعم عنه وتعويمه. وساهم انخفاض سعر النفط في تسريع هذه العملية أكثر فأكثر. وهذا ما أدى إلى «القفزة» في ارتفاع سعر الدولار حيال الروبل. ولكن هذه «القفزة» ستكون في نهاية المطاف لمصلحة الاقتصاد الروسي لجهة تشجيع الإنتاج الوطني وتنويع مصادر الاستيراد والتصدير.

هذا من دون أن ننسى تشجيع الاستثمار والتوظيف من دول الكتلة الغربية ذاتها في روسيا، «بفضل» الروبل الرخيص.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى