اقتصاد

الاقتصاد في اليوم 1700 من الحرب (بقاء سوريا ـ الدولة .. الغريب والحتمي)

لا زالت الدولة تعمل في سوريا. شرطة المرور تسطر المخالفات، حتى في اللحظات التي تتساقط فيها قذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا على العاصمة. عمال النظافة يقومون بغسل الشوارع ليلا، القمامة تجمع فجرا، والطرقات تصلح. الرواتب تصل من دون تأخير للموظفين، حتى في بعض مناطق النزاع، التحذيرات والانذارات ترسل للمتغيبين، وما زال الموظفون في العديد من المرافق العامة بمقدورهم الابتسام في وجه المراجعين.

اما البنوك فإنها تعمل ولكنها توقفت عن منح القروض، عدا تلك التي تتضمن مبالغ محدودة جدا ولا سيما للعسكريين او أهالي الشهداء. الربط الالكتروني بين العاصمة والمحافظات التي ما زالت تخضع بشكل كامل لسيطرة الدولة ما زال قائما، والمخابز تسعى جاهدة لتوفير مادة الخبز، فيما تتعثر عمليات تأمين الوقود لأسباب كثيرة، وإن كانت تصل في النهاية.

حركة النقل مستمرة، حتى في الشوارع المهددة برصاص القنص. البضائع تنقل في شاحنات كبيرة وصغيرة على الخطوط الدولية وبين مناطق البلاد المختلفة، وفق اتفاقات معلنة وسرية، وانطلاقا من حاجة الناس للضروريات وحاجة المنتجين للمال.

الحياة ليست طبيعية، ولكنها تشبه الطبيعية. الحياة ليست جميلة، ولكنها ممكنة، ضمن الحدود الدنيا المعقولة، في بلد لا يعيش حالة طبيعية، بل يعيش حربا معقدة تشترك فيها ما يزيد عن 40 جنسية، بما فيها الجنسيات التي تمثل دولها بشكل رسمي، في هذا الصراع.

كيف يصمد البلد، وكيف يستمر؟ يمكن أن تأخذ الاجابة طرقا عدة. إلا أنه من المفيد تتبعها عبر السبل اليومية؛ أبرزها في سلوك الموظف الطريق إلى عمله صباح كل يوم. والموظف، بدون الاشارة للمشاعر الوطنية، يعمل لأنه سيتلقى راتبه في نهاية الشهر، والذي يحتاجه بشكل حقيقي حتى آخر قرش فيه. أيضا يعمل الموظف، لأنه يعرف أنه بقدر ما يقدم من خدمات للناس، بقدر ما يحصل على خدمات من زملائه الموظفين في مناطق أخرى، ووظائف أخرى. يسير المعاملات لأن على أحدهم أن يفعل ذلك، ولأنه ايضا إن تغيب سينال عقوبة وربما الفصل من العمل. فالدولة موجودة كجهاز رقابي، ولم تتكاسل أعينها رغم الحرب والخسائر الرهيبة.

المعادلة تبدو بسيطة. بعد العمل يحتاج الموظف للنقل، ويحتاج الناقل للزبون. وفي البيت، يعود الاولاد من الجامعة التي ما زالت تعمل، وتجري الامتحانات في موعدها تقريبا. والطالب، ليس من بدائل لديه، فإما الدراسة وإما العمل أو الالتحاق بالجيش. هو بدوره يعلم أن الدولة موجودة، والدولة لا تضيع وقتا بتذكيره بهذا الامر. فالاستمرار في التعليم، يسمح بتأجيل الالتحاق بالخدمة العسكرية لكن من دون إلغائها.

كثيرون يسافرون في النهاية، كما هو معلوم، ولكن ليس من دون جواز السفر الرسمي، الذي يحصل عليه المواطن من دون صعوبات كبيرة، ويشكل أبرز وثائق الدولة القائمة. لا يلغي الدولة ان الجواز يتم تزويره، وهو أمر تتعرض له كل جوازات السفر، بل على العكس، أثبتت الدولة انها قادرة على منع أية هيئة أخرى من اصدار هذه الوثيقة، بعد أن حاولت قطر بالتعاون مع فرنسا اصدار جوازات سفر سورية عبر قنوات المعارضة.

في المساء يشاهد افراد الأسرة التلفاز. تنقطع الكهرباء كثيرا ولساعات طويلة. أحيانا بسبب اعمال ارهابية، وأحيانا أخرى لنقص الوقود أو نتيجة اعطال. لكن الكهرباء تعود، والدولة تحاول تبرير انقطاعها بحجج عديدة وتعد بتحسينها.. حين تتحسن الظروف.

الإعلام بدوره موجود باعتباره إعلام دولة. تصنيفه الحقيقي، إعلام حكومي، إلا أنه وجه من وجوه الدولة المركزية. يتعاطي التلفزيون مع الاحداث باعتبارها من الأخبار، فيما تستمر دورة البرامج الترفيهية والثقافية وغيرها. الحرب طويلة، وعلى الدولة والناس التعاطي مع هذا الامر. لذا، يمكن لمذيعات البرنامج الصباحي الابتسام والحديث عن مساوئ الشحوم، في الوقت الذي تهرع سيارات الاسعاف في خلفية المشهد إلى أماكن سقوط القذائف.

الدولة ترفع الاسعار، وتفرض الضرائب، وتشرع المراسيم. حتى الحديث عن «تشجيع السياحة»، يجد صداه في وسائل الإعلام الرسمية. هل توجد سياحة في سوريا؟ لا يوجد سياح بالمعنى الحقيقي الخدمي. ولكن يوجد زوار للمرافق السياحية. وليس سرا أن فنادق اللاذقية وطرطوس شهدت حجوزات كاملة أغلب ايام الصيف. هل كانوا سياحا؟ ربما ليس بالضرورة، ولكن المرافق تعمل، وتقدم خدماتها، وسهراتها الترفيهية حتى لو كانت الحرب على بعد كيلومترات عدة فقط.

«الدولة يجب أن تكون حاضرة وقوية ولا تضيع فرصة للتعبير عن وجودها وثقلها». تلك كانت القاعدة الرئيسية، منذ استشرست الحرب في سوريا وعليها. «الدولة» بكل مظاهرها الممكنة يجب أن تكون حاضرة، حتى لو تقلصت مساحات السيطرة، وحصل دمار مهول، ومات الكثيرون. الدولة في النهاية هي الوعاء الجامع الوحيد المتبقي. وهي التي بإمكانها التفاوض حين تصبح التسوية قريبة. وهي التي تعيد هيبة «النظام القانوني والخدماتي والاجتماعي والتشريعي»، إلى المناطق التي خضعت لسيطرة المسلحين، أو شهدت فوضى.

صحيح، أن مشاهد كثيرة تقول إن الدولة غائبة في سوريا: فوضى السلاح والعنف، توالد الزعماء المحليين بقوة النفوذ الفردي، الفساد، الجريمة، والفوضى بتجليات عدة. إلا أن الحرب التي ولدت منذ خمس سنوات، تنجب اولادا من هذا النوع.

وربما تأكل الحرب أبناءها لاحقا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى