الانتحاريون مِنَّا وفينا (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

بلا سياسة وبلا «بلاغة» السياسيين. تجهيل الفاعل ختامه فتنة.
الانتحاريون في ما بيننا. هم منّا وفينا. لسنا غرباء عنهم ولا هم بعيدون. هنا ولدوا. هنا شبَّوا. هنا تدرّبوا على التوحش، وهنا غابتهم.
من يزرع الريح يحصد العاصفة. الفلتان الديني يخلّف شياطين برعاية الله وكنف الأنبياء والدعاة. الانتهاكات الدينية، قتل للألوهة والنبوّة والرسالة. بها يصبح الله قائداً للإرهاب برتبة «أمير».
الانتحاريون منا وفينا. نحن علة وجودهم. لا براءة لأحد من هذا الميراث. حتى العلمانيون مذنبون. لولانا لما كانوا. هم الوجه الآخر لفشلنا وسقوطنا وتهافتنا وتخلينا… هم الرد المجنون والمجرم، على لا عقلانيتنا وعلى استقالتنا من المسؤولية والمحاسبة… هم السلالة الطبيعية للسلطة الاستبدادية والهتك الإنساني والظلم الكوني، والذي أبدناه بلا مبالاتنا وخوفنا وانهزامنا وثقافتنا و… سرعة امتثالنا لفروض الطاعة التي تعممها أجهزة السلطة وأجهزة الدين، الحليفان اللدودان، في صنع الحرية وتعميم القمع والتكفير، وإلغاء الإنسان، أنبل خلق الله، فسبحانه في بشريته.
الانتحاريون كانوا مثلنا ومعنا في القاع، في درك الخراب والرثاثة والغثاثة والحثالة. شعوباً كنا بلا إنسانيتنا. قبلنا بالهزيمة واتكلنا على الله وعلى الآخر وعلى قاعدة السلامة بعيش يسير وكرامة مهدورة.
كنا معاً في القاع، هم خرجوا منه إلى قاع أدنى. قاعنا هادئ، مستكين، متنازل، متخاذل، اعتدنا عليه، بأخلاق الحد الأدنى. قاعنا كئيب، مفلس، محبط، مدمر بهدوء، مُحَيْوَن. قاعنا حاضر يفتك بنا… أما قاع الانتحاريين فهو إعدام للحاضر وقتل للمستقبل وإحياء الموت، إذ لا حياة إلا به، لذلك اعتنقوه أسلوب حياة وممات معاً. يا للمعجزة الجهنمية التي لم يسبقهم إليها إلا من كانوا على صورتهم وعلى مثالهم، منذ خرج الخوارج من الصراع السياسي بين علي ومعاوية، فكفّروا الاثنين وقاتلوا وقتلوا حتى بلغ الدم عتبات السماء.
تساهلنا مع القمع والاستبداد والفساد والتسلط والتديّن الملتبس، فكان الفراغ يملأ ساحتنا ويعتلي قامة أرواحنا. لم نكن قطعيين. لم نقطع مع أحد. كل فريق أو حزب أو فرد، اختار استبداداً يحميه ويموّله. انتظم في قطيع مطيع. ترك أمره في إمرة غيره. فضّل عقيدة السترة و«لا مرة الله يرحمو»… ثم صارت التنازلات والتسويات فادحة جداً ومتناقضة بمبالغة معيبة: ليبرالي مع استبداد، يساري مع نفط، علماني مع مذهبي، تقدمي مع أصولي، مواطن مع مواطف، اشتراكي مع سلفي، ديموقراطي مع سلفي، امبريالي مع إخواني، مستقل مع تبعي، منتصر مع داع للهزيمة، جامعي عقد قراناً مع الأمية، أخلاقي مع فاسد، إعلامي مع إعلاني، فقراء مع أثرياء، مظلوم مع ظالم، ملحد مع رجل دين، رجل دين مع ما هبّ ودبّ من كفر.
ما هذا؟ كيف لهذا الجمع المكتظ بالكذب والعهر والخنوع والانتهازية أن يكون في غير هذا القاع العربي المزمن.
الربيع العربي الجميل، انتشلنا من القاع. هذا الربيع قتلناه في ليبيا وسوريا والبحرين. وتهنا عن الحرية بدعوى الانشطار الديني والمذهبي والنفطي والغربي. تونس وحدها في طريقها إلى النجاة من قتل ربيعها. نحن مشغولون عنها في تبرير العسكريتاريا ودعم الاستبداد والدفاع عن الملكيات والانتظام في الخنادق المذهبية، وتبنّي المقتلة، بشرط رمي التهمة على الخصم.
السلطة، في تنويعاتها العربية، وظّفت الدين عندها، وهابية وسندسية وإخوانية وقاعدة. السلطة في وجهها الآخر بنت الاستبداد القومي الحديث، خافت من الحرية، فاستعانت بالدين ووظفته ليكون متنفساً «سماوياً» لقضايا الوطن والرغيف والكرامة والحياة.
السلطات كافة سلّعت الدين وتساهلت مع رجالاته ذوي الثقافات السطحية والنيات النفعية والشهوة السلطوية. التساهل الانتهازي هذا، مع تسليع الدين، أو مع تسييس الدين، مجلبة للفتنة. إن إدخال الله في ثقب المذاهب وفي فتق الطوائف وإقحامه في كل شاردة بذيئة وواردة فاسقة، أدى إلى تحول الدّين إلى سكين… الانتحاريون، المغالون في تطيّفهم وتمذهبهم وضيق أفقهم هم الإنجاب الطبيعي لهذه الثقافة التي ترمي إلى غسل دماغ الأمة وتأهيلها للانتحار.
التساهل الرخيص مع رجال الدين، أصحاب العزم والحزم والجزم والجرم والفهم يسمح بمسح العقل وتأليه الغريزة الدينية المؤسسة على إلغاء الآخر الكافر… حرب الحقائق الدينية أفدح الحروب. إسألوا أوروبا قبلنا. استعيدوا تراث الإسلام في السياسة، واستعيذوا من شر ما خلقه هذا التراث. لا دم بسخاء الدم الديني. الدين، إن تعصّب، صار فتكاً.
لذا، الأمة اليوم في أفضل موتها، تحتفي به على الشاشات التي تحوّلت إلى صناديق وتوابيت لفرجة المذبحة… ونحن نتسلّى بمرارة العجز ونسأل: ما هذا؟ لماذا هذا؟ إلى متى هذا؟ من هذا؟ وإلى أين؟ وبالتأكيد، لا أين أوضح من إشارة المرور إلى الكارثة.
الكلمات الواردة أعلاه، لا تفي بالغرض، إلا إذا اعتبرنا واعترفنا بمسؤوليتنا عما آلت إليه أحوالنا من خراب. الإحالة على المؤامرة الخارجية، خرافة متهافتة. كل مؤامرة خارجية بحاجة إلى أدوات، ومنا نحن أدوات الفتنة. حطب النيران من عندنا. ألسنا مسؤولين عن… أم أننا مطمئنون إلى براءتنا.
لننكأ أكثر. ماذا تعني البيئات الحاضنة؟ فسّروا لنا ذلك. حاضنة المقاومة مشروعة، لأن الاحتلال يشرعن لكل ما ومن في الأمة لقتال الاحتلال. والدين هنا فقط، يملك المشروعية. أما المذهبية، فبعد أن تؤدي خدمتها في المقاومة، سيُنظر إليها إلى أنها طائفة لا مقاومة، وتبدأ فتنة نزع السلاح… وما نعيشه عنوانه السلاح… يا للعار!
التغاضي عن مصادر الطاقة المذهلة لتعميم سياسة التكفير، وترصيد هذه السياسة بالآيات الدينية ومدارس الفقه وفقهاء الجهل، أخطر من العنف… الوهابية المصدَّرة من السعودية، السلفية المحتضنة منها، «الإخوان» المرتاحون إلى أحضان قطر. الـ… هنا أول الغيث المسموم وأول الزرع الفاسد.
تجفيف منابع الانتحاريين لا يكون بقطع المال والسلاح، بل بقطع حبل السرة بين هذا التديّن وهاتيك السياسات الجهنمية. الدين مقام للروح، وليس مرتعاً وخيماً للظلم والفساد والطغمة الحاكمة والمتحكمة. وعليه، فمن واجب «أوصياء الروح» تحرير الله والدين من التكفيريين، وتحرير المجتمع من وصاية الدين، وخصوصاً في بلاد دينها مذاهبها. للأسف، «أوصياء الروح» من رجال دين ورجال فكر قلة قليلة، أو قلة مختبئة وجبانة.
على أمل ألا يُفهم من هذا الكلام أعلاه أنه تبرير للانتحاريين. الهدف أن لا نخدع أنفسنا بالبراءة الملوَّثة ببلادة الضمير وصلافة الإحساس المنحاز. علينا أن نتحمل مسؤولية سقوطنا، لقد كنا خدام مَن أماتنا معنوياً وأخلاقياً وإنسانياً. فجاء الانتحاريون ليكون خدمة الموت.
بعض الإشارات للتوضيح، كي يُساء الفهم: الأولى، الانتحاريون في لبنان ليسوا ضد الشيعة فقط، بل ضد سلاح المقاومة.. الثانية، أحمد الأسير خرَّج تكفيريين، وكانت له في لبنان حاضنة تكرهه… هي معه ولكنها تكرهه.. الثالثة، الحواضن في سوريا لدى الفريقين، حواضن تكفيرية، سلطوية سياسية وتسلطية دينية. إشارة أخيرة للتذكير: حربنا اللبنانية المغفلة بإرادة زعمائها والقتلة، مترعة بالقتل. فلنعتبر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى