الانسحاب الاستراتيجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط (ثيودور كاراسيك و رياض قهوجي)

 ثيودور كاراسيك و رياض قهوجي

 

يتساءل المراقبون في الشرق الأوسط عن تأثير خطوة تقليص الإنفاق العسكري المحتمل في الوجود الأميركي بالمنطقة، كذلك يشعر حلفاء واشنطن بقلق إضافي عندما يسمعون مسؤوليها يتحدثون عن تحوّل أولوياتهم نحو آسيا، ونيتهم خفض التدخل الأميركي في الشرق الأوسط.
 تشهد منطقة الشرق الأوسط الكبير توتراً كبيراً، بدءاً من موريتانيا في شمال إفريقيا وصولاً إلى باكستان. فتعاني أجزاء عدة من هذه المنطقة هجمات إرهابية، وانتفاضات، وحروباً. وما من مرحلة في التاريخ الحديث كانت فيها المنطقة متقلبة إلى هذا الحد.
 قد يعتبر البعض أن هذا ليس بجديد بالنسبة إلى هذه المنطقة الكثيرة الاضطرابات، ولكن ثمة عوامل جديدة تجعل هذه المرحلة مختلفة عما كان عليه الوضع في العقود الأخيرة، ولعل أهمها تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية.
 عندما نتأمل الوضع في هذه المنطقة عن كثب، بدءاً من شمال إفريقيا، نُلاحظ أن الولايات المتحدة كانت شبه غائبة في أهم المعارك ضد تنظيم "القاعدة" في المغرب. فقد قادت فرنسا القتال لطرد المقاتلين الإسلاميين الأصوليين من مالي. أما في الهلال الخصيب، خصوصاً سورية، فترفض واشنطن كل الدعوات للتدخل أو مساعدة الثوار في معركتهم ضد النظام الذي تدعمه إيران. ووقفت مكتوفة اليدين في حين راحت المجموعات الإسلامية المتشددة التابعة لتنظيم "القاعدة" ترسّخ وجودها في أماكن استراتيجية مهمة في سورية. وما أذهل المراقبين حقاً رؤية السفن الروسية تتنقل بحرية على طول الساحل السوري، منفذة المناورات ومزودة النظام السوري بالسلاح. حتى صواريخ باتريوت التي نُشرت تحت مظلة حلف شمال الأطلسي على طول الحدود التركية- السورية قدمتها دول أوروبية، خصوصاً ألمانيا وهولندا. كذلك خُفّض حجم الأسطول الأميركي في الخليج العربي مع انسحاب حاملتَي طائرات تابعتَين للقوات الضاربة. وأخيراً، ستبدأ الولايات المتحدة قريبا سحب قواتها من أفغانستان، ما يمهد لانسحاب كامل بحلول نهاية 2014.
 بينما يشتد الجدال في الولايات المتحدة بشأن تقليص الانفاق، الذي قد يؤدي إلى اقتطاعات في موازنة الدفاع تصل إلى 600 مليار دولار، يتساءل المراقبون في الشرق الأوسط عن تأثير هذه الخطوة المحتمل في وجود الولايات المتحدة في المنطقة. كذلك يشعر حلفاء الولايات المتحدة بقلق إضافي عندما يسمعون المسؤولين الأميركيين يتحدثون عن تحول أولوياتهم نحو آسيا، ونيتهم خفض التدخل الأميركي في الشرق الأوسط. ولا شك أن هذه التطورات تؤجج الدعاية الإيرانية عن أن قوة الولايات المتحدة تتراجع، وأن إيران ستكون القوة الناشئة الجديدة التي ستسيطر على المنطقة. 
من المرجح عموما أن تفرح إيران وتعتبر استراتيجية الجمهورية الإسلامية التي اتبعتها طوال سنوات لإخراج الولايات المتحدة من المنطقة ناجحة، ما يمنح طهران زخماً إضافياً، في حين تهوي سورية نحو الفوضى السياسية. طوال سنوات، دعت إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد مراراً الولايات المتحدة لمغادرة المنطقة، خصوصاً الخليج العربي. كذلك طالبتها بأن تسمح لدول المنطقة بأن تضمن أمنها الخاص، وأن تؤسس نظاماً أمنياً جديداً في الخليج العربي لا مكان للولايات المتحدة فيه.
 تخوض الولايات المتحدة وحلفاؤها حرباً باردة ضد إيران ومحور حلفائها في الشرق الأوسط. وفي حين ينتظر حلفاء واشنطن العرب لمعرفة مدى صحة توقعات الولايات المتحدة عن أن النظام الإيراني سينهار تحت وطأة العقوبات الاقتصادية، يفاجأون لرؤية الولايات المتحدة على وشك أن تنسحب بسبب الضغوط الاقتصادية وتبدل أولويات سياستها الخارجية. من المؤكد أن هذا سيشكل صدمة كبيرة لمنطقة كانت تضم قبل عشر سنوات أكثر من 200 ألف جندي أميركي منتشرين فيها، ولا تحتوي على أي وجود لسفن حربية روسية أو صينية.
 يمكننا وصف هذا الوضع في أفضل الأحوال بأنه انتقال مفاجئ من سياسة إدارة جورج بوش الابن وتأييدها الشديد للتدخل إلى سياسة إدارة باراك أوباما وسياستها الرافضة للتدخل، التي وصفها البعض بأنها "قيادة من الخلف"، في حين اعتبرها عدد من المسؤولين الإقليميين سياسة "انعزالية". لا بد من وجود منطقة وسطى تستطيع الولايات المتحدة من خلالها قيادة جهود جماعية على الأرض، بدل التدخل بمفردها أو النأي بنفسها تماماً عن أي تدخل.
 تزداد المخاوف الإقليمية مما يبدو مدرسة أفكار جديدة بدأت تبرز في واشنطن، وقد تحدد السياسة الخارجية الأميركية والمتطلبات العسكرية للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. يدعو البعض هذه المدرسة "العزلة الجديدة"، لأنها تسعى إلى سحب الولايات المتحدة من الحلبات الإقليمية إنما من دون أي خطة واضحة بشأن مَن سيسد هذا الفراغ.
  تعتقد مدرسة "العزلة الجديدة" أنه لا داعي لأن تبقى الولايات المتحدة، بمرور الوقت، القوة المهيمنة في الخليج العربي كي تؤمن خصوصاً الحماية لإمدادات النفط وتضمن إيصالها إلى العملاء والحلفاء في الشرق. لا يرتبط هذا التبدل الاستراتيجي بالمال فحسب، بل يعود هذا التغيير المفاجئ أيضاً إلى واقع أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكون في كل مكان في آن واحد، وأنها باتت تملك مصادر للطاقة أقرب إليها، خصوصاً مع استخراج الطاقة من النفط والغاز الصخريين.
 تسمح العزلة الجديدة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية للدول العربية بتدبر أمورها هي بنفسها خلال الانتفاضات الإقليمية، ما يتيح للولايات المتحدة البقاء على الحياد. فقد أعطى الربيع العربي لدول مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر فرصة لتبرهن عن قدراتها الجوية في ائتلاف قاده حلف شمال الأطلسي ضد ليبيا وأدى إلى سقوط معمر القذافي. علاوة على ذلك، بات الحلفاء الأوروبيون اليوم يضطلعون بمسؤولية أكبر رغم مشاكلهم الاقتصادية. ويتجلى هذا الوضع في سورية، حيث تحمل الدول العربية جزءاً من العبء، ومالي، حيث يضطلع الجنود الأفارقة بدور أكبر في مرحلة يشهد فيها الشرق الأوسط الكبير تغييرات جذرية.
 يشكل بروز شخصيات أميركية، مثل السيناتور رون بول، وتأثير جماعات "حفلات الشاي"، التي تنادي بالحد من تدخل الولايات المتحدة في القضايا الدولية لتركز عوض ذلك على المسائل المحلية، مؤشراً إلى ما يخبئه المستقبل في واشنطن وإلى ما يجب أن يتحضر له المسؤولون في الشرق الأوسط. أثارت هذه السياسات قلق حليف الولايات المتحدة الأول في المنطقة، إسرائيل. لذلك من الطبيعي أن يقلق حلفاء الولايات المتحدة العرب أيضاً. ولا شك في أن أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربي لن يسعدوا بهذا التبدل الاستراتيجي. يبدو أن كابوس دول الخليج الأسوأ يتحول إلى حقيقة: فلا تقتصر المشكلة على خفض الولايات المتحدة وجودها العسكري في المنطقة بشكل كبير. فمن المرجح أن تتحول إيران إلى قوة نووية، ما يدفع واشنطن إلى التعامل مباشرة مع طهران، متخطية حلفاءها الأساسيين في الخليج العربي. عندئذٍ، ستُضطر دول مجلس التعاون إلى الالتفات شرقاً لتضمن أمنها. ومن المحتمل أن تكون الهند والصين أهم المستفيدين، ولن تتخلف روسيا كثيراً عن اللحاق بهما في السنوات المقبلة.
 يبدو جلياً أن الولايات المتحدة تخوض اليوم انسحاباً استراتيجياً من المنطقة، وأن غياب رغبة واشنطن في التدخل في أي خطط طوارئ في المستقبل في الشرق الأوسط الكبير بدأ يتفاقم، علاوة على ذلك، إن اعتُمدت سياسة اقتطاعات الموازنة بالكامل، فستقضي على الأدوات الأميركية الرئيسة لبسط نفوذها (القوة الجوية، والبحرية، والعمليات الخاصة)، هذا إن دعت الحاجة إلى استخدامها.
  ولا شك أن تأثيرات هذه الاقتطاعات ستكون عالمية، لا إقليمية فحسب. فالاكتفاء بتأمين المعلومات للحلفاء واستخدام الطائرات بدون طيار من الخلف سيُضعف صوت الولايات المتحدة عندما تحتاج واشنطن إلى بسط نفوذها خلال أزمة أو صراع ما. في الشرق الأوسط الكبير، ستسعى واشنطن إلى الحفاظ على علاقات عسكرية- عسكرية سليمة رغم الاقتطاعات، ستقبل ببعض الخلل في النقاشات السياسية- السياسية، وستركز على تطوير درع من الصواريخ البالستية ضد الصواريخ الإيرانية وغيرها. ويبدو واضحا اليوم أن الأسلحة التكنولوجية الآلية التي تقضي على الهدف من بعيد صارت خيار الولايات المتحدة الأول بين الأسلحة.
 نتيجة كل ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا سيحدث للوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط إن طُبّقت اقتطاعات الموازنة؟ ما مدى تأثير ذلك في ميزان القوى العربية- الإيرانية؟ ماذا سيحدث لحلف شمال الأطلسي (الناتو)؟ وما ستكون النظرة إلى هذا الحلف في المنطقة مع الأخذ في الاعتبار أن معظم المسؤولين العرب يعتقدون أن الولايات المتحدة هي حلف شمال الأطلسي؟ إذن، ثمة أسئلة كثيرة حول تأثير هذه الاقتطاعات في السياسة الخارجية الأميركية وأولويات واشنطن الدولية من الضروري أن تجيب عنها إدارة أوباما الحالية بسرعة. صحيح أن الأعمال العدائية والأحادية الطرف تؤدي غالباً إلى الاضطرابات والحروب، لكن اللامبالاة والإفراط في الحذر يتسببان أيضا في الاضطرابات والحروب في بعض الأحيان. لذلك لا بد من البحث عن منطقة وسطى.

صحيفة الجريدة الكويتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى