التأثيرات الطائفية للأزمة السورية في دول الجوار (صافيناز محمد أحمد)

 

صافيناز محمد أحمد‮‬

 

أخطر ما يمكن أن تؤدي إليه الأزمة السورية الداخلية الممتدة بين نظام الأسد القمعي والمعارضة الشعبية هي التداعيات المتوقع حدوثها على دول الجوار السوري‮: ‬لبنان،‮ ‬وتركيا،‮ ‬والعراق التي‮ "‬قد‮" ‬تكون دولا مرشحة لمخاطر تمدد الصراع الداخلي في سوريا عبر الحدود إليها،‮ ‬خاصة أن تلك الدول تعاني وجود امتدادات عرقية ومذهبية وطائفية مشابهة إلى حد كبير للتركيبة المجتمعية السورية،‮ ‬مما سيؤثر بالضرورة في الاستقرار والأمن العام في تلك الدول‮.‬‬‬‬‬‬‬‬
وقد ارتبطت تداعيات الأزمة السورية على الجوار الإقليمي بأمرين،‮ ‬الأول يتعلق بعملية انتقال اللاجئين السوريين عبر الحدود،‮ ‬والثاني يتعلق بتحيز الطوائف العرقية أو المذهبية لمثيلتها من الطوائف السورية،‮ ‬وانعكاسات ذلك على المصالح الإقليمية للدول‮. ‬أما إيران،‮ ‬كدولة جوار،‮ ‬فتخرج من موقع‮ "‬التأثر‮" ‬بتداعيات الصراع الداخلي في سوريا لتشغل موقع‮ "‬المؤثر‮" ‬في الصراع،‮ ‬بل والمتحكم في مساره إلى حد كبير،‮ ‬سواء باستمرار الدعم المادي واللوجيستي لنظام الأسد في مواجهة الأزمة داخليا وخارجيا،‮ ‬أو بتوظيف الورقة الطائفية السورية في لبنان بما يخدم مصالح أنصارها هناك،‮ ‬وفي تركيا بما يقوض من تحركات مناهضيها على الساحة الإقليمية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أولا‮- ‬تداعيات الأزمة السورية على لبنان‮:‬‬
يعاني لبنان،‮ ‬بحكم الارتباط التاريخي والجغرافي مع سوريا،‮ ‬تداعيات جمة أحدثتها الأزمة السورية الحالية على الاستقرار السياسي والأمني به،‮ ‬خاصة في مدينتي بيروت وطرابلس،‮ ‬خلال الأشهر القليلة الماضية،‮ ‬على خلفية حالة التباين التي يشهدها بين القوى السياسية والطوائف المختلفة تجاه ما يحدث في سوريا،‮ ‬والتي انعكست في تأييد السنة للمعارضة السورية،‮ ‬بينما تؤيد الشيعة‮ – ‬وفي مقدمتهم حزب الله‮ – ‬نظام الأسد،‮ ‬الأمر يبدو أكثر تأثيرا،‮ ‬إذا ما نظرنا إلى حجم اللاجئين السوريين للحدود اللبنانية الذي يصل إلى أربعين ألفا،‮ ‬معظمهم من السنة،‮ ‬مما‮ "‬قد‮" ‬يؤثر بالضرورة في تغيير التوازنات السياسية بين المكون الطائفي في بعض المدن اللبنانية،‮ ‬حتي تلك التي تتسم مثلا بأغلبية مماثلة لنوعية المذهب الديني أو السياسي للاجئين السوريين‮. ‬اتضح هذا المضمون في الأحداث التي شهدتها مدينة طرابلس ذات الأغلبية السنية،‮ ‬خلال شهري مايو ويونيو الماضيين،‮ ‬ثم في حالات الانفلات الأمني وما واكبها من اختطاف لعدد من اللبنانيين الشيعة من قبل عناصر تابعة للمعارضة السورية في مدينة حلب،‮ ‬أثناء عودتهم من إيران عبر الأراضي السورية،‮ ‬مما رأته قوى سياسية لبنانية‮ "‬استهدافا طائفيا‮" ‬لشيعة لبنان لتأييدهم النظام السوري‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
تلك الأحداث تشير بالضرورة إلى خطورة الموقف في لبنان الذي بات متأثرا بوطأة ما يحدث في سوريا،‮ ‬مما يزيد المخاوف من دخوله دائرة الاحتقان الطائفي مجددا،‮ ‬خاصة في ظل استمرارية حالة التوتر في المشهد السياسي اللبناني بين فريقي‮ ‬8و14 مارس،‮ ‬والذي ظل عنوانا للحياة السياسية اللبنانية منذ الخروج القسري للقوات السورية عام‮ ‬2005، وحتي قبيل اندلاع الأزمة السورية الحالية التي كرست هذا التباين السياسي،‮ ‬حينما ساندت قوى‮ ‬14 مارس المعارضة السورية،‮ ‬بينما ناصرت قوى ‮ ‬8 مارس بزعامة حزب الله نظام الأسد،‮ ‬وما حدث في طرابلس خلال أغسطس الماضي عكس حجم المخاوف الطائفية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فالمدينة التي تتمتع بأغلبية سنية تحولت بحكم الموقع الجغرافي إلى ساحة تأييد خلفية للمعارضة السورية،‮ ‬وكانت شاهدا على اندلاع أول حالة اقتتال طائفي بفعل الأزمة السورية بين اللبنانيين السنة والشيعة العلويين،‮ ‬نتج عنها وقوع ضحايا من الجانبين،‮ ‬أعقبتها عمليات اختطاف لعناصر سلفية مؤيدة للمعارضة السورية،‮ ‬واعتصامات ذات طابع مذهبي في ساحة النور بالمدينة،‮ ‬ردا على استهداف قوات الأمن لتلك العناصر،‮ ‬ثم مواجهات في أحياء باب التبانة ذات الغالبية السنية،‮ ‬وجبل محسن ذات الغالبية العلوية،‮ ‬أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من اللبنانيين‮. ‬ثم جاء تقديم الحكومة السورية مذكرة اتهامات بحق لبنان إلى الأمم المتحدة،‮ ‬باعتباره‮ "‬حاضنا لعناصر إرهابية من تنظيم القاعدة‮" ‬تقوم بضربات عبر الحدود في سوريا،‮ ‬تعبيرا عن وجود محاولات حثيثة من نظام الأسد لتوريط الساحة السياسية اللبنانية في الصراع الدائر على الأراضي السورية،‮ ‬ومن ثم تصدير الأزمة للبنان بتداعياتها الحادة والسلبية على المكون الطائفي بها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

من السياق السابق،‮ ‬يمكن القول إن تداعيات الأزمة السورية على التفاعلات الطائفية في لبنان أخيرا تلقي بدلالات عدة لها تأثيراتها الواضحة في المشهد السياسي اللبناني،‮ ‬يمكن رصدها فيما يلي‮ :‬‬‬

الدلالة الأولى تشير إلى أنه وعلى الرغم من عدم اتساع نطاق المواجهات التي تمت في لبنان،‮ ‬خلال شهر أغسطس الماضي،‮ ‬بين مؤيدي النظام السوري ومؤيدي المعارضة،‮ ‬فإن الطابع الطائفي لها،‮ ‬خاصة بين السنة والعلويين في طرابلس،‮ ‬عكس حجم التعصبات المذهبية وما يرتبط بها من نزاعات سياسية متعارضة،‮ ‬ترجمتها نوعية الأسلحة المستخدمة،‮ ‬وعملية إحراق المحال التجارية التي تمت على أساس طائفي‮.‬‬‬‬‬‬‬‬

الدلالة الثانية تشير إلى‮ "‬توقيت‮" ‬اندلاع التوترات المذهبية في الشمال اللبناني،‮ ‬وبالتحديد في مدينة طرابلس،‮ ‬فالأزمة السورية مستمرة منذ عام ونصف العام،‮ ‬وهي مدة ظل لبنان خلالها متماسكا في مواجهة تبعات الأزمة ومردودها الطائفي والسياسي علىها،‮ ‬إذن لماذا الآن؟‮. ‬التوقيت هنا يشير إلى أمرين،‮ ‬الأول يتعلق بسوريا،‮ ‬وازدياد حدة الرفض والإدانة الدولية لممارسات النظام القمعي تجاه المعارضة‮. ‬ومن ثم،‮ ‬كان الاتجاه إلى بديل التخفيف من الضغوط الدولية والإقليمية على نظام الأسد،‮ ‬عبر تصدير الخلاف الطائفي السوري إلى الساحة اللبنانية،‮ ‬هو إحدي صور المواجهة التي يحاول النظام التلويح بها في مواجهة المجتمع الدولي،‮ ‬أي التهديد بإشعال حرب طائفية إقليمية في المنطقة،‮ ‬تطول جميع الدول ذات التركيبة الطائفية المماثلة للتركيبة المجتمعية السورية وأولاها بالطبع لبنان‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أما الأمر الثاني،‮ ‬فيتعلق بالتوتر السياسي اللبناني،‮ ‬إثر اتهام أجهزة الأمن النائب اللبناني الأسبق،‮ ‬مشال سماحة،‮ ‬الذي عمل لفترة مستشارا للرئيس السوري بشار الأسد،‮ ‬بالتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية ضد قادة في الطائفتين السنية والمارونية،‮ ‬وذلك بدعم من النظام السوري،‮ ‬بهدف تأجيج النزاع الطائفي،‮ ‬وفصل عري تحالف قوى‮ ‬14 مارس المؤلفة من قوى سنية ومسيحية مارونية،‮ ‬مما يفتح الباب مجددا على حالة من الفوضي الأمنية والسياسية في لبنان‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الدلالة الثالثة تشير إلى موقف حزب الله من الأحداث الطائفية الأخيرة التي شهدتها مدينتا طرابلس وبيروت،‮ ‬هو موقف يبدو‮ ‬غريبا ولا يتطابق مع حجم التأييد الذي يمنحه للنظام القمعي في سوريا‮. ‬فالأحداث في طرابلس كانت بعيدة كل البعد عن تورط حزب الله فيها‮. ‬البعض يري أن حزب الله يكتفي بممارسة تأثيره السياسي في منطقة تمركزه الجغرافي فقط،‮ ‬أي في الجنوب اللبناني،‮ ‬وهو تفسير يفتقد البعد السياسي بالطبع،‮ ‬لأن التفسير الأقرب إلى الصحة هو أن حزب الله درس بدقة متناهية حسابات‮ "‬الربح والخسارة‮" ‬في الفوضي الطائفية التي شهدتها المدينتان المذكورتان،‮ ‬وخلص منها إلى نتيجة،‮ ‬مؤداها أنه وفي حالة تورطه في إذكاء النزاع الطائفي بين السنة والشيعة العلويين في المدينتين،‮ ‬فسيقلص ذلك من فرص إجرائه‮ "‬تسويات‮" ‬لصالحه،‮ ‬أو على أقل تقدير ليست ضده بينه وبين القوى السياسية اللبنانية من ناحية،‮ ‬وبينه وبين القوى الإقليمية من ناحية أخرى،‮ ‬في حالة سقوط نظام بشار الأسد الذي يدعمه‮. ‬لذلك،‮ ‬آثر حزب الله النأي بنفسه بعيدا عن حالة النزاع الطائفي في طرابلس وبيروت،‮ ‬وتركها للعديد من البؤر الطائفية الأخرى التي توالي النظام السوري،‮ ‬والقادرة على تحويل لبنان إلى ساحة للفوضي‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الدلالة الرابعة تشير إلى سياسة‮ "‬النأي بالنفس‮" ‬التي انتهجتها حكومة ميقاتي اللبنانية بشأن الأزمة السورية منذ اندلاعها،‮ ‬وهي سياسة تبدو محايدة ظاهريا،‮ ‬إلا أنها واقعيا خدمت النظام السوري القمعي،‮ ‬إذا ما نظرنا إلى المحاولات التي‮  ‬قامت بها السلطات الأمنية في التضييق على العناصر الموالية للمعارضة السورية،‮ ‬وعلى اللاجئين السوريين‮. ‬أضف إلى ذلك أن تلك الحكومة مكنت نظام الأسد‮- ‬وقبيل اندلاع أزمته‮ – ‬من تأمين عمق سياسي له عبر دعمها،‮ ‬بل وحفاظها وتأمينها لخطوط الاتصال السياسية والعسكرية بين النظام في دمشق وحزب الله‮. ‬يعني ذلك أن لبنان المأزوم بفعل تكوينه الطائفي والسياسي الداخلي لم يستطع أن ينأي بنفسه فعليا عما يدور في سوريا،‮ ‬وأن نظام الأسد قادر على الزج بلبنان إلى ساحة الفوضي لابتزاز القوى الإقليمية في المنطقة،‮ ‬خاصة تركيا والسعودية،‮ ‬اللتين تريان في استهداف السنة اللبنانيين في طرابلس من قبل العلويين‮ "‬بروفة‮" ‬لحرب طائفية جديدة في لبنان‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الدلالة الخامسة تشير إلى خطورة توظيف الأزمة السورية الحالية للواقع اللبناني الطائفي في خدمة النظام السوري ومساعيه،‮ ‬إما للبقاء أو الخروج الآمن مستقبلا،‮ ‬لأن الواقع الطائفي في سوريا‮ ‬غير مرتبط بالواقع السياسي الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية،‮ ‬وتشكل ‮ ‬ %11، من المجتمع السوري،‮ ‬وتُخضع الأكثرية السنية التي تشكل ‮ ‬75 % من السكان لها بكافة أشكال القمع‮. ‬أما الواقع اللبناني الطائفي،‮ ‬على الرغم من تشابه مكوناته مع نظيره السوري،‮ ‬فإنه تم توظيفه واقعيا وسياسيا فيما يسمي‮ "‬بالطائفية السياسية‮" ‬التي تعني أن قواعد اللعبة السياسية تقوم على التنوع الطائفي والعرقي،‮ ‬ويكون التوافق فيها أو ما يسمي بالديمقراطية التوافقية هو الحاكم للعلاقة بين القوى السياسية المختلفة،‮ ‬وهو أمر مختلف تماما عن الأوضاع السياسية السورية،‮ ‬ومن ثم تصبح عملية تصدير نزاع طائفي إلى الأراضي اللبنانية أشد خطورة على استقرارها السياسي والأمني‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثانيا‮- ‬آثار الأزمة السورية على التفاعلات الطائفية في تركيا‮:‬‬
أما بالنسبة لتركيا،‮ ‬فلم تسلم كدولة جوار لسوريا من تأثيرات تبدو حادة على النظام السياسي التركي،‮ ‬إلا أنها أقل خطورة في درجة التأثير الطائفي عن تلك التي يعانيها لبنان،‮ ‬لأن تلك التأثيرات لا تتخذ الطابع الطائفي المذهبي بين سنة وشيعة،‮ ‬بقدر ما تتخذ أشكالا أخرى تتعلق بالأقليات العرقية،‮ ‬خاصة الأكراد والعلويين‮. ‬فجدير بالذكر أن الأزمة السورية حولت العلاقات التركية‮ – ‬السورية من درجة‮ "‬التحالف‮" ‬الاستراتيجي إلى درجة‮ "‬الخلاف‮" ‬الاستراتيجي الحاد،‮ ‬إثر الموقف التركي المؤيد للثورة‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وارتبطت بهذا الواقع سياسات متبادلة عبرت عن عمق الخلاف بين الجانبين التركي والسوري،‮ ‬كانت أكثر حضورا على الحدود بين البلدين،‮ ‬سواء على مستوى هجرة السوريين من أتون الحرب الدائرة بين المعارضة والنظام،‮ ‬ولجوئهم لتركيا التي استوعبت حتي الآن ما يقرب من سبعين ألف لاجئ،‮ ‬أو على مستوى احتضان قوى المعارضة السياسية وعناصر وقادة الجيش السوري الحر،‮ ‬وتوفير الدعم لهم،‮ ‬من خلال التدريب والتسليح وغيره،‮ ‬أو على مستوى رفع درجة‮ "‬سخونة‮" ‬الحدود،‮ ‬عبر قيام الجيش السوري النظامي بالانسحاب من المدن الكردية السورية على الحدود،‮ ‬وترك أمر حماية تلك المناطق لعناصر من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري،‮ ‬الذي يعد حليف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض‮. ‬يعني ذلك أن دمشق تضغط بالفعل على أنقرة عبر استخدام الورقة الكردية التي تمثل هاجسا أمنيا للمشهد السياسي التركي منذ عقود مضت‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هنا،‮ ‬يأتي الحديث عن تبعات الانخراط التركي في الأزمة وتداعياتها على التفاعلات الطائفية والعرقية بها،‮ ‬ومدي تأثر الامتدادات الطائفية بين سوريا وتركيا بحالة الاقتتال الدائر في الأولي،‮ ‬وبالتحديد الأقلية الكردية التي لها مطالبها السياسية في الاستقلال منذ عقود طويلة،‮ ‬والأقلية العلوية كطائفة مذهبية يبلغ‮ ‬تعدادها في تركيا نحو عشرين مليون شخص‮.‬‬‬‬‬‬‬
أخطر ما يؤرق تركيا هو اضطرارها إلى التدخل في الشمال السوري لمواجهة مخاطر تمركز حزب العمال الكردستاني المعارض على حدودها الجنوبية،‮ ‬واستخدامه من قبل النظام السوري كورقة ضغط على تركيا،‮ ‬مما يعني أنها ستكون في مواجهة مع الأكراد السوريين الذين يعيشون في المنطقة الحدودية‮. ‬إذن،‮ ‬يدخل أكراد سوريا في منظومة حسابات الأمن الاستراتيجي لتركيا،‮ ‬لأنها باختصار شديد تتحسب تماما لأي واقع أو تسويات قد تسفر عن إقامة دولة كردية شمال سوريا،‮ ‬مما يجعل من المناطق الحدودية التركية الجنوبية ملاذا آمنا لحزب العمال الكردستاني المعارض‮.‬‬‬‬‬‬‬
وعليه،‮ ‬فإن أي فراغ‮ ‬متوقع في السلطة السورية‮ – ‬من وجهة النظر التركية‮- ‬إذا لم يعالج بوجود حكومة يتم تشكيلها من المعارضة السياسية التي تحتضنها تركيا،‮ ‬من شأنه إتاحة المجال أمام العديد من السيناريوهات التي تراها تركيا‮ "‬مقلقة‮" ‬تماما بالنسبة لأمنها واستقرارها،‮ ‬منها مثلا اتجاه أكراد سوريا إلى تبني خيار الفيدرالية أو الاستقلال التام عن الجسد السوري،‮ ‬أيضا اتجاه العلويين‮ – ‬في حالة تقسيم سوريا‮ – ‬إلى إقامة دولتهم،‮ ‬مما قد يدفع علويي تركيا للمطالبة بالاستقلال،‮ ‬على‮ ‬غرار نظرائهم السوريين،‮ ‬أو على أقل تقدير تخشي تركيا أن يعاود حزب العمال الكردستاني ضرباته الإرهابية للداخل التركي،‮ ‬الأمر الذي سينال من الاستقرار الأمني في المرحلة الحالية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
في هذا السياق،‮ ‬يلاحظ أن حكومة العدالة والتنمية مدركة تماما لمخاطر الورقة الكردية على مستقبل الاستقرار السياسي التركي،‮ ‬في حالة استمرار الأزمة السورية،‮ ‬بالكيفية التي تسير عليها دون حسم،‮ ‬والتي تفسح المجال أمام نظام الأسد للتأثير في الوضع السياسي التركي الداخلي بتوظيفه لتلك الورقة‮. ‬وترصد أنقرة ملاحظتين تؤكدان قناعاتها بأنها مقبلة على أزمة عدم استقرار،‮ ‬نتيجة لاستخدام نظام الأسد الأكراد كرقم مهم في معادلة العلاقات السورية‮ – ‬التركية وهما‮:‬‬‬‬‬‬‬‬
– الدعم الكامل الذي يقدمه النظام السوري وكذلك الإيراني لحزب العمال الكردستاني المعارض،‮ ‬وتأمين تحركاته في المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا،‮ ‬وانعكس في حجم ونوع العمليات التي نفذها الحزب في الداخل التركي منذ اندلاع الثورة السورية‮.‬‬‬‬
– رصد حكومة العدالة والتنمية لاتصالات بين إيران وحزب العمال الكردستاني المعارض بشأن عرض الحزب على إيران إقامة تحالف مع أكراد سوريا،‮ ‬إذا ما أسفرت تطورات الأزمة السورية عن سقوط نظام الأسد،‮ ‬الذي قد ينتج عنه قيام نظام سوري جديد قد يتعارض في سياساته مع إيران‮. ‬فهذا التحالف سيكون من شأنه تمكين إيران من التدخل في شئون سوريا ما بعد نظام الأسد،‮ ‬ويكون المقابل الذي يناله الحزب الكردستاني التركي هو ضمان الدعم الإيراني لمطالبات إقامة دولة للأكراد في المنطقة‮.‬‬‬‬‬‬
الملاحظات السابق رصدها فرضت على الحكومة التركية إما الاستعداد للمواجهة العسكرية،‮ ‬أو الاحتواء السياسي والدبلوماسي،‮ ‬عبر التحرك الإقليمي الفعال‮. ‬الخيار الأول له تبعات سلبية كبيرة لا تستطيع أن تتحملها الحكومة التركية،‮ ‬سواء أكانت تبعات أمنية أم اقتصادية،‮ ‬كما أنه محكوم بمجموعة من القيود المفروضة على الخيار العسكري التركي في سوريا‮. ‬أما الخيار الثاني،‮ ‬فلم يؤت بثماره طوال شهور الأزمة السورية،‮ ‬بل ألقي بتداعيات اقتصادية وأمنية رهيبة على الحكومة التركية،‮ ‬جراء فتح حدودها أمام اللاجئين السوريين‮. ‬إذن،‮ ‬ما هو السيناريو الذي يمكن تركيا من الخروج من الأزمة السورية بأقل التكاليف السياسية والاقتصادية والأمنية الممكنة؟ السيناريو يكمن في التواصل مع المعارضة السورية التي من المتوقع أن تحل محل النظام السوري،‮ ‬لاسيما المجلس الوطني الذي يرأسه السياسي الكردي عبد الباسط سيدا،‮ ‬الذي تتطابق وجهات نظره في الشأن الكردي مع مثيلتها التركية‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
فالدولة السورية الجديدة هي‮ "‬دولة ديمقراطية حرة واحدة يتساوي فيها الجميع في إطار وحدة الدولة‮"‬،‮ ‬أيضا ضرورة التواصل مع القوى العربية،‮ ‬لاسيما السعودية ومصر‮. ‬فالمصلحة العربية في سوريا الموحدة‮ ‬غير المقسمة هي مصلحة تركية أيضا‮. ‬وعليه،‮ ‬يكون السيناريو التركي لمواجهة الأزمة السورية هو مزيدا من الحشد الدبلوماسي الإقليمي والدولي للإسراع بالإطاحة بنظام الأسد،‮ ‬مع تأكيد مدي الخسائر التي تتحملها الحكومة التركية جراء الأوضاع المأساوية على حدودها،‮ ‬مع توفير البديل لتولي السلطة،‮ ‬حال سقوط الأسد،‮ ‬تفاديا لحدوث أي فراغ‮ ‬سياسي يحول سوريا لدولة فاشلة‮.                ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أما بالنسبة للعلويين في تركيا وعددهم نحو‮ ‬20 مليون نسمة،‮ ‬ويمثلون‮ ‬30 %  من السكان،‮ ‬يقيم جزء منهم يبلغ‮ ‬نحو المليون في إقليم‮ "‬هاتاي‮" ‬التركي بلواء الأسكندرونة،‮ ‬فإنهم يمثلون امتدادا جغرافيا لعلويي سوريا‮. ‬وتسعي تركيا إلى احتواء الآثار السلبية الناجمة عن وجود اللاجئين في منطقة الحدود التي شهدت احتكاكات متعددة بين الطرفين بالبحث في بدائل نقل اللاجئين إلى داخل الآراضي التركية‮. ‬ويكمن التحدي الرئيسي لتركيا في علاقة اللاجئين السوريين بالداخل التركي في مدي تقبل الطائفة العلوية التركية المؤيدة للنظام العلوي السوري لوجود السنة السوريين،‮ ‬خاصة بعد أن وصفت الطائفة العلوية التركية الدعم الهائل معنويا وماديا وعسكريا الذي تقدمه حكومة العدالة والتنمية للمعارضة السورية،‮ ‬خاصة الإخوان المسلمين،‮ ‬بأنه نوع من التقارب المذهبي السياسي وانتقاص من وضعية العلويين في تركيا الذين لم يتوانوا عن نقد سياسات الحكومة فيما يتعلق بالأزمة السورية‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هنا،‮ ‬الأمر يبدو شديد الوطأة على أنقرة،‮ ‬لأنه بات يهدد ولو بطريقة‮ ‬غير مباشرة حالة الوئام المجتمعي التركي،‮ ‬ويشير إلى وجود مسار يجمع بين موقف العلويين الأتراك المعارض لحزب العدالة والتنمية وموقفهم المؤيد بالطبع للثورة السورية‮. ‬ولكن يجب ألا نفصل بين حقيقة ثابتة،‮ ‬مؤداها أن انتقادات الطائفة العلوية لسياسات حكومة العدالة والتنمية ليست نابعة من موقف الحكومة التركية من نظام الأسد،‮ ‬أي ليست وليدة العام ونصف العام الماضيين فقط،‮ ‬وإنما نابعة من مخاوف‮ "‬أسلمة‮" ‬الدولة التركية‮. ‬يعني ذلك أن حالة عدم الانسجام بين الحكومة التركية والعلويين،‮ ‬والتي تترجم في معارضة هذه الطائفة لسياسات الحكومة،‮ ‬عبر ممارسة سياسية حزبية واضحة في حزب الشعب الجمهوري المعارض وبعض الأحزاب اليسارية‮ – ‬التي تعد الطائفة العلوية هي القاعدة التصويتية لها‮ – ‬لا تخرج عن كونها صراعا سياسيا ذا أبعاد دينية،‮ ‬لكنه في الوقت نفسه لا يرتقي إلى درجة الصراع الطائفي الذي بدا واضحا في الأزمة السورية‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثالثا‮- ‬تداعيات الأزمة السورية على العراق‮: ‬‬‬
تعرض العراق أيضا لانعكاسات الأزمة السورية وتفاعلاتها الطائفية،‮ ‬فقد كان الملف الكردي هو الملف الأكثر تفاعلا في العلاقات العراقية‮ – ‬السورية خلال الشهرين الماضيين‮. ‬ففي خطوة‮ ‬غير مسبوقة،‮ ‬قام مسعود برازاني،‮ ‬رئيس إقليم كردستان العراق،‮ ‬الذي يتمتع بوضع فيدرإلى،‮ ‬بالترويج لمبادرة‮ "‬توحيد الأكراد السوريين‮"‬،‮ ‬والتوسط بين تكتلين كرديين كبيرين،‮ ‬هما المجلس الوطني الكردي،‮ ‬وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي‮ – ‬ميليشيا مسلحة‮-  ‬بهدف توحيد وتنسيق المواقف الكردية العراقية والسورية للعمل المشترك في مرحلة ما بعد رحيل نظام بشار الأسد‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وهي رسالة واضحة أدركتها تركيا،‮ ‬ومؤداها أن العراق يسعي إلى مساعدة أكراد سوريا في الحصول على ما يتجاوز مجرد التمتع بحقوق المواطنة كاملة إلى الحصول على حكم ذاتي،‮ ‬أشبه بما حصل عليه أكراد العراق،‮ ‬مما يعني التأثير سلبا في أكراد تركيا الذين سيطالبون حتما الحكومة التركية بأكثر من الاعتراف بحقوقهم الثقافية والمساواة والمواطنة‮. ‬إذن،‮ ‬التحركات العراقية بشأن أكراد سوريا تراها تركيا سلاحا ذا حدين بالنسبة لها‮. ‬فمن ناحية،‮ ‬تري تلك التحركات تهديدا للاستقرار السياسي بها على خلفية الوضعية السياسية والاجتماعية لأكرادها‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن ناحية ثانية،‮ ‬تراها مهددة للتفاعلات الإقليمية في المنطقة،‮ ‬لأن تحفيز أكراد سوريا على الاستقلال،‮ ‬في ظل الظروف التي تمر بها الثورة السورية،‮ ‬سيضعف سوريا ويؤهلها للفشل الذي يعقبه تقسيم طائفي لا محالة‮. ‬وهنا،‮ ‬يكمن التهديد الأكبر بالنسبة لتركيا تحديدا من الناحية الأمنية،‮ ‬والسياسية،‮ ‬والاجتماعية بالطبع‮. ‬التفسير المنطقي لهذه الخطوة التي قام بها زعيم إقليم كردستان هو أنها لا تخرج عن كونها محاولة لتخفيف الضغوط الإقليمية التي تمارسها تركيا على حليفه بشار الأسد،‮ ‬لأن ما يجمع بين الإقليم العراقي والحكومة التركية من مصالح يجعل برازاني يعيد دراسة حساباته الإقليمية جيدا،‮ ‬خاصة أن تركيا توفر للإقليم متنفسا سياسيا واقتصاديا بديلا عن‮  ‬العلاقات المتوترة بين الإقليم وحكومة العراق المركزية‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن جهة أخرى،‮ ‬يدخل التوتر السني‮ – ‬الشيعي في العراق،‮ ‬على خلفية الأزمة السورية،‮ ‬طورا جديدا من أطوار المواجهات السياسية‮. ‬فالعراقيون السنة،‮ ‬لاسيما في‮ ‬غرب العراق،‮ ‬حيث الحدود مع سوريا،‮ ‬يتعاطفون تماما مع السنة السوريين في حربهم مع النظام ويدعمونهم بالسلاح،‮ ‬بينما ترفض الحكومة العراقية الشيعية هذا الدعم العراقي السني،‮ ‬وتراه محفزا لخلايا تنظيم القاعدة للوجود في المنطقة الحدودية،‮ ‬ويسهم في تفاقم التوترات الطائفية في العراق‮. ‬في الوقت نفسه،‮ ‬يري سنة العراق أن ثمة تحالفا شيعيا يضم الحكومة العراقية وإيران،‮ ‬أخذ على عاتقه مواجهة محاولات إسقاط النظام السوري‮. ‬ووسيلته في ذلك إثارة مخاوف الشيعة من النتائج التي ستترتب على انتصار الثورة السورية على النظام العلوي الشيعي في دمشق لأنه سيمثل انتصارا للسنة في المنطقة بأكملها‮. ‬الموقف العراقي إذن ينقسم بين الشيعة الذين يدعمون نظام الأسد،‮ ‬ويصفون المعارضة السورية بالعناصر الإرهابية،‮ ‬وبين السنة الذين يساندون المعارضة بالمال والسلاح‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
والسؤال هنا‮: ‬ما تداعيات ذلك على الداخل العراقي واستقراره الذي لم يكتمل بعد. هنا،‮ ‬يمكن رصد بعض التداعيات التي انعكست على الأوضاع الأمنية والسياسية خلال الشهرين الماضيين‮: ‬‬‬‬

– احتدام الصراع السياسي بين حكومة بغداد المركزية وإقليم كردستان الكردي،‮ ‬العراقي،‮ ‬وترجمة ذلك في رفض حكومة الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي دخول قوات الجيش العراقي النظامية منطقة الحدود مع سوريا لمنع تسلل العناصر المسلحة،‮ ‬بحسب زعم الحكومة المركزية،‮ ‬وهو أمر ينذر بمواجهات عسكرية مستقبلية بين قوات البيشمركة الكردية والجيش العراقي‮.‬‬‬‬‬‬
– ازدياد مخاوف تقسيم العراق مستقبلا،‮ ‬وبعد الانتهاء من الأزمة السورية،‮ ‬بالنظر إلى التحركات الكردية العراقية على مستوى التفاعل مع أكراد سوريا،‮ ‬والذي تواكب مع تهديد زعيم الإقليم،‮ ‬مسعود برازاني،‮ ‬بإجراء استفتاء لتحديد مصير الإقليم،‮ ‬ردا على محاولات الحكومة المركزية العراقية إدخال قوات الجيش في المدن التركية،‮ ‬لاسيما المتنازع عليها،‮ ‬على خلفية ضبط الحدود مع سوريا‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
في هذا الإطار،‮ ‬يمكن القول إن الأزمة السورية تجاوزت حد الأزمات السياسية الداخلية بين نظام ومعارضة،‮ ‬وتحولت إلى أزمة إقليمية دولية مرشحة مستقبلا لتتحول إلى أزمة طائفية بسبب التركيبة السكانية،‮ ‬والامتدادات الإثنية والعرقية،‮ ‬والتكوينات الطائفية والمذهبية التي تتشابه فيها كل من تركيا ولبنان والعراق مع سوريا،‮ ‬في ظل وجود دور إيراني لايزال قادرا على توظيف المذهبية والطائفية والعرقية داخل دول الجوار لحملها على تغيير مواقفها من الأزمة،‮ ‬وللضغط في الوقت نفسه على القوى الدولية التي لا ترغب في اندلاع حرب طائفية في منطقة إقليمية شديدة الحساسية،‮ ‬سيكون لها مردودها السلبي على الاستقرار فيها،‮ ‬بما لا يخدم تحالفاتها السياسية ومصالحها الاستراتيجية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 

دورية السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى