التصديق على وقائع «موت معلن»

هو زمن النهايات، لا حقبة التحولات. التاريخ سجل البدايات الكبرى، بعد استكمال النهايات العاصفة. امبراطوريات عظمى اندثرت. دول قوية وعاتية وتاريخية انهارت. شعوب كثيرة تفجّرت وتمزقت وتبددت في هجرات. والعالم العربي الذي عرف منذ مئة عام، بحدوده وكياناته وأنظمته وثقافاته وعقائده وبناه السياسية والعسكرية والتشريعية، يزحل من التاريخ. وفي مثل هذه الاستحقاقات، يصعب، أو غالبا يستحيل، وقف الانهيار.

هو منعطف، لا رجعة فيه إلى الوراء، حيث كان للعرب أحلام كبرى، بالوحدة والحرية والاستقلال، عن غرب استبدَّ وقسَّم مغانم التركة العثمانية على كيانات وأنظمة وقيادات سياسية، تابعة له ومحمية منه. لا إمكانية، وسط هذه الدهماء وسيطرة الرعاع الأقوياء، لاستعادة قضايا ومبادئ وقيم ومشاريع. تحرير فلسطين غير وارد. استقال العرب من التحرير، بعد محاولات صادقة، إنما فاشلة، ومحاولات إجهاض واضحة، إنما ناجحة. فلسطين في عهدة مقاومة، انقسمت مذهبيا، يعوَّل عليها، إن نجت من السقوط في الحروب المذهبية الطاحنة. لا قدرة لأي ربيع عربي أن يستعيد بداياته الواعدة، بالدولة والدستور والقوانين والديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة والكرامة. البديل المتداول، الأسلمة أو العسكرة، وكلاهما في أزمة وجودية، برغم ما لديهما من حجج الاستقواء، لا القوة.

«الربيع العربي» كان علاجاً نافعاً لهذا العالم الذي تعفن في استبداده واستقراره المرهون لطبائع الأمن والمخابرات ونظام التبعية الدولي. غير انه لم يكن مناسبا بالمرة، ليس بسبب عدم جودته، بل لعدم استحقاق الجسم لجرعة الحرية والعدالة والديموقراطية. بسقوط «الربيع العربي»، سقط العالم العربي إلى دركه الأسفل، وبات بحاجة إلى من يعلن إفلاسه. «داعش» أو «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وانتظام سلطة الخلافة فيها. وقيادة المعارك المريعة والناجحة، وانتشارها في أكثر من دولة وكيان وإقليم، أمور تؤكد زمن النهايات العربية، وبداية جديدة، تتأصل راهنا في تراكم الركام والتنافس المذهبي على حصة من هذا الركام.

«حكاية موت معلن». لا تحتاج إلى من يكتبها. هي مقروءة في صورة النهايات التي أسفرت عنها، مئة عام من الفشل، مئة عام من العبث، مئة عام من قهر وإعدام كل جميل. مئة عام من الأنظمة الفاشلة في مواجهة الأعداء، في الميادين كافة، والمتفوقة في مواجهة شعوبها ووأدها. مئة عام من الحروب الأخوية، والتطاحن الدائم (لائحة حروب الإخوة سجل لانتصارات الإخوة على شعوبهم بتغذية الأحقاد الكيانية والطائفية). مئة عام من تجريف الوعي وتزوير المعارف واتهام الأنوار، ومئة عام من الحفر في الماضي، للتماثل معه، وليس للاستيحاء البناء منه. مئة عام من تعميم الأمية واعتبار الأمة فائزة بمقدار استتباب الأمن فيها واعتبار الاستقرار، فوق كل شعار. والاستقرار العربي مرادف للاستنقاع والتعفن والتخلف. مئة عام من إعدام الأحزاب الفكرية والعقائدية والسياسية، واستلاب هيئات المجتمع المدني، وتطويع النقابات وتجويف الجامعات وتعطيل الفكر والتجديد، مئة عام من السرقة والنهب، من دون تمييز، بين دول نفطية غنية، تصدر النفط بمقدار ما تتصيد من المفاسد، ودول فقيرة أو مفقرة، تتصيدها «النخب» العسكرية الفاسدة والمفسدة. مئة عام من النكبات، من الاجتياحات، من الفوارق المذهلة بين الطبقات. مئة عام من النوم العميق في كهف الاستبداد ورعاته الإقليميين والدوليين.

لنفرض أن عقد النهايات الذي بدأ، قد اكتمل بعد أعوام من حروب التدمير، فكيف سيكون المشهد وسط الركام، وماذا يتبقى من عناصر ومواد لرسم معالم عالم بعد الخراب؟ هل سيكون عالماً عربيا، أم عوالم صغرى ضحلة تافهة، لكيانات ملجأ، تشبه عقيدة الكيان اللبناني، الذي تأسس على قاعدة أن يكون ملجأ الأقليات المضطهدة من أكثرية إسلامية زاحفة؟

من المتوقع أن تستمر الحرب التي بدأت منذ ثلاثة أعوام، في دول ما بعد «الربيع العربي» إلى وقت غير محدد. الأطراف المشاركة تتحدث عن حروب طويلة. كأننا ما زلنا في البداية المظفرة لبلوغ النهايات. غير ان نتائج ثلاث سنوات من الحرب، أسفرت عن مجموعة من الحقائق الرجراجة، لكن ذات أرجحية، منها:

العراق، يصعب تصوره دولة واحدة موحّدة. خطر كبير يتهدد حدوده، ككيان أنشئ ورسم ما بعد الحرب الكونية. مجتمع العراق تفجر، واستعادت عناصره التكوينية البدئية الأولى، بانتماءاتها القبلية، كامل الساحة، بفعالية مؤثرة. الشعب العراقي، سيغيب حتماً وستحل مكانه شعوب، تستمد شرعيتها من تناقضها في ما بينها، ومن عصبياتها الارتدادية، التي تعود إلى السلف الصالح والطالح، وإلى السيرة بوجوهها وصيغها المختلفة، وإلى ارومات عرقية فجة، متسلّحة بحق الوجود كما هي، وبما هي عليه، بذاتها فقط. سيكون العراق مؤلفا من أعداء يتساكنون في كيانات ملجأ، لا في دولة. ومثل هذا التصوّر يفترض تأمين سلام، يوكل إلى قوى النفوذ الإقليمية وقوى الحمايات الدولية. فالعراق، قد يجد نفسه نموذجاً لبنانيا، تخضع قواه «السياسية»، لنفوذ دول الإقليم: إيران حامية الشيعة، السعودية، ان نجت من حروب الإسلام السياسي المتعدد، سترعى السنّة، أما الأكراد فلهم حمايات الدول العظمى. العراق، لن يكون لاعباً إقليمياً، بل مجرد ملعب لقوى إقليمية ودولية. أو، سيكون، ربما، دولة الدويلات الصغيرة القوية بما لديها من دعم خارجي. هذا النموذج، أثبت فشله في لبنان. لعل تحسينه بشروط خارج منطق التعايش ومنطق التغالب، يوفر فرصة نجاح الكانتونات.

لن تكون سوريا في المشهد القادم، سوريةً. لن تجتمع في دولة واحدة. لن تكون دولة محكومة من أكثرية أو دولة واحدة محكومة من أقلية. ستكون، كالعراق، تجمع كيانات، لمذاهب وأعراق، محمية من قوى ذات نفوذ إقليمي أو دولي. سيكون للسنّة مرجعية خارجية، وسيرتبطون بالدولة الأقوى نفوذاً ومالا، السعودية تجهد لتكون لها حصة وتنافسها تركيا. سيكون للعلويين مرجعية، وسيرتبطون بها. أما الأكراد، إن مُنحوا فرصة العيش، بعد حروب «داعش» وتواطؤ الأتراك عليهم، فسيكون لهم كيان يتصل، بطريقة ما، بإقليم «كردستان العراق». ماركة «البشمركة» قابلة للتصدير والاحتذاء.

ولبنان، إن نجا، سيحافظ على صيغته الفذة في أَفشالها، لأن البدائل منعدمة. لا بديل من نظام الطوائف. كل بديل صحي فيه، هو مشروع حرب أهلية. سيبقى لبنان، ان كتبت له النجاة، بعد هزيمة البرابرة الذين باتوا مستيقظين على أبوابه، وينامون داخل بيئات محبذة، سيبقى مستغرقاً في فلسفة التوافق المستحيل، و«العيش المشترك» الكاذب.

ماذا يقال عن ليبيا؟ أو عن الصومال؟ أو عن اليمن؟ أو عن دول عربية، لا يتهددها عدوان خارجي أبداً، بل تتهددها انتفاضات دينية، بصيغ «إخوانية» وجهادية أو سلفية أو…

ما أسوأ هذه البدايات، بعد تلك النهايات! «لا يخرج من العوسج عنب ولا من الشوك تين».

في المشهد الراهن. دول يمكن ان يعوّل عليها، لأنها قد تسلم من تداعيات الانهيار العربي الكبير.

إيران دولة يعوّل عليها ولكنها معطوبة. دولة بمذهب تستدعي أن تقف إزاءها دول بمذاهب مخالفة. وبسبب مذهبيتها، فإن تأثيرها في أتباع المذهب الذي تلتزم به، سيكون حاسماً، وتحديداً في دول ذات أغلبية سنية حاكمة وأقلية شيعية محكومة. باستثناء البحرين، حيث الأقلية السنية حاكمة ومتحكمة بأكثرية شيعية…

السعودية، الامارات، العراق، سوريا، لبنان، اليمن، دول ذات حضور شيعي، تتأثر وتتدوزن وتتفاعل مع إيران. فكيف يمكن رسم نظام إقليمي، تكون فيه إيران لاعبا أساسياً، بينما نفوذها ليس على دولة بذاتها، بل على جماعات تحتضنها وتواليها، داخل هذه الدول.

والسعودية، إن نجت، دولة إقليمية ذات نفوذ واسع، بما لديها من مال ونفط وإسلام خاص بها، يدعمها وتدعمه، حيث تدعو الحاجة. السعودية دولة ناشطة جداً في كل الحروب التي نشبت في المنطقة. وأكثر نشاطا في تحسس المخاطر التي تتهددها لطبيعة نظامها ولثراء طبقتها الحاكمة والنفوذ الذي تمارسه أميركا عليها. وهي لذلك، إحدى ركائز النظام الإقليمي العربي العتيد، ولكنها ركيزة لا تنسجم لا مع إيران، ولا مع الدولة الحاضنة للإسلام السياسي الممثل بـ«الإخوان»، في تركيا.

أين مصر في هذا الازدحام السياسي والمذهبي؟ مصر لم تعد إليها الروح بعد، كي يعود لها الدور. هي دولة محور، لكنها لا تدور على محور طبيعي. هي دولة كبرى، بلا أدوار، لا كبرى أو صغرى. همها الحفاظ على نفسها كدولة. نجح العسكر في انتشال الدولة من العبث والعنف، بكلفة باهظة جداً. الحفاظ على الدولة، على أيدي العسكر، قضى بأن تتم التضحية بشعارات «الربيع العربي» في مصر: الحرية والعدالة ورغيف الخبز… العسكر والديموقراطية ضدان. مصر هذه التي نجت من طوفان الخراب والتدمير الذاتي، لم تنج منه سوريا بعسكرها الذي قتل «الربيع السوري» في المهد، فاستيقظ الوحش الديني بديلاً منه. لم تنجح ليبيا في امتحان بقاء الدولة. عاثت بها القبائل والعشائر والعصائب الإسلامية و«قاعدتها»، وما استطاع الجيش أن يمسك بزمام استعادة الدولة لوحدتها. هي في صدد التفكك والدخول في حرب «المئة عام»، وهي حرب عرفتها السودان، وتعرفها الصومال، وتتدرب عليها سوريا، ويتقنها العراق، ويستطيع لبنان أن يكون نموذجاً مخجلاً.

لا مواد حية لبناء الدولة الوطنية. دول الإقليم، لا تساعد في ذلك، حصتها من الحروب والأزمات، الحصة الكبرى. فمن يمكن الركون إليه لرسم صورة مقبولة لهذا المشرق البائس؟

في المشهد الراهن، قبائل وعشائر وأقوام ونفط وثروات. كل ما في هذا المشهد، ينذر بخطر على وجود الأمة والدولة والشعب والوطن والإنسان. لا شيء من مستلزمات لبناء الدولة والحفاظ على نسيج المجتمع وإقامة نظام سياسي مستقر وإنعاش اقتصاد اجتماعي إنتاجي، لا يتوفر، لا في دول الإقليم ولا في القوى الغائبة، ولا في القوى الدينية الحاضرة.

هل يُترك أمر إعادة رسم المشرق، لدول الانتداب الدولي، التي استُدعيت لنجدة دول فاشلة، ومجتمعات فاشلة، وأنظمة فاشلة وجيوش فاشلة وعقائد فاشلة؟

يبدو من المرجح، اننا لسنا جديرين بأن نحكم أنفسنا بأنفسنا.

يقول آلان بيرفيت في كتابه «معجزة الاقتصاد»، إن التقدم في التاريخ هو الاستثناء. القاعدة هي التراجع والتخلف. يبدو أننا ما زلنا في مقام التراجع. الحلقة الجنونية لم تكتمل بعد. إننا شهود على السقوط العربي المستمر، وعلى السقوط الإسلامي المدمّر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى