التفكير بالتكفير (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

نكاد نصبح شركاء في الموت فقط. ما يجمعنا، يأس مترابط الحلقات، وما يلمّنا، ضياع وانعدام أفق.
الوطن اللبناني ينسحب من المشهد، فإذا رفعت الستارة عنه غداً، قد لا تجده، وقد لا تجدنا، وقد لا تجد أحداً.
ولا مبالغة في توقع الأسوأ. ولا إفراط في توقع العدم الذي تنذرنا آيات التكفيريين، الذين تصدق سيوفهم مع فتاويهم. فلا خطر يفوق خطرهم. إنهم «تسونامي» الظلام، يتدفق علينا ويبددنا. فنحن، كما يرانا، أصنام البلاد، وهم، كما يدّعون، أنبياء الآخرة.
نعرف أوطانا بكت، عندما أمضى حكامها يتباكون. وفي لبنان، تتبارى الطبقة السياسية في التباكي، وإصدار بيانات التذاكي، والتعامل مع التغلغل التكفيري «الجهادي»، على أنه عامل يضاف إلى مهنة التوظيف السياسي، في الموازين الرجراجة للتركيبة اللبنانية أو… الحكومية. يا للسخرية.
عرَّفتنا الطبقة السياسية على مستواها، وعلى أدائها، وعلى مراميها. ظنت أن قوتها من إضعاف خصومها. تفوَّقت في التعطيل. لبنان بات مدرسة سياسية مرموقة في فن التعطيل الدائم. وينشأ التعطيل من عقلية التوظيف، ويرتكز التوظيف على التسخيف: تسخيف المخاطر التي يتحسسها فريق، وتبادل هذا التسخيف، في أدق اللحظات وأكثرها حراجة ودموية.
يعيش لبنان منذ فترة سحيقة على التخوين المتبادل. أعداء متربصون، يتراشقون بالكبيرة والصغيرة. يشهرون أسلحتهم على القضايا الكبرى بالتناوب. يصوِّبون على المقاومة، فلا يصيبونها، والمقاومة تصوِّب على المحكمة فلا تخدشها… يصوبون على النظام السوري، من هنا وهناك، بكل ما أوتوا من دعم وقوة مذهبية وخليجية ودولية، ولا يغيِّرون في معادلة الدم أبداً. فيما المقاومة تطلق النار في الميادين السورية على «التكفيريين» من دون أن توقف اندفاعهم من الميادين السورية، إلى بلاد ما بين النهرين وطرابلس الشام وشقيقاتها من أهل الجماعة. يحتمي فريق بأهل السنة، فيرد «أهل البيت» بمثلها. وهكذا دواليك، وصولاً إلى الحوار الملغى والحكومة المفقودة، والرئاسة المفرغة والمجلس المتقاعد والإدارات المستقيلة والأمن بالتناصف والمداورة الملغومة إلى آخر ما استهلكه اللبنانيون من كلام ومواقف مجترة.
معارك مستمرة، لا يربح فيها أحد من الفريقين، ويخسر اللبنانيون فقط. معارك عبثية لا طائل فيها، وامتهان المنازلات المنكرة، بألفاظ رثة ولغة هابطة وبيانات لا يعوَّل عليها.
كان ذلك كله «مقبولاً» على مضض، لأن مخاطر الانقسام محسوبة بالسياسة والقليل المفجع من التفجيرات الأمنية الموسمية. كان ذلك كله مفهوماً على مضض، لأن ذلك من طبيعة الانقسام اللبناني، وأن السياسة في لبنان، هي فن الرقص على التناقضات والاحتفاء بشطارة البقاء على حافة الهاوية.
اللعبة هذه، كانت «مقبولة»، قبل دخول التكفيريين المشهد اللبناني، من باب يتسع يوماً بعد يوم، ليصبح لبنان أرض قتال «للقاعدة» وشقيقاتها، من أهل «الجهاد التكفيري».
لا خطر من فريق «14 آذار» على فريق «8 آذار»، والعكس صحيح. التعادل السياسي والميداني سيد الموقف، باستثناء ما حصل في السابع من أيار. أما من الآن فصاعداً، فإن الخطر الأكيد، المنظور والمحسوس والمسموع والموقع عليه بالسلاح والقتل والتفجير وبيانات المبايعة، وتنفيذ السياسات بالعمليات الانتحارية، تأسيساً على منطق التكفير العام والخاص، هو خطر المجموعات التكفيرية والجهادية بأسمائها «البشعى» كلها.
لا دليل على ما آلت إليه حياتنا، غير حياتنا التي نحياها. حياتنا أضحت مستحيلة. في تاريخ لبنان، منذ ولادته، ولا مرة كانت الحياة فيه مستحيلة. ما يتراءى للبعض، أن هذه هي حياة اللبنانيين، أو هذه هي الحياة، ويمكن احتمال بؤسها أو مأساتها، واهمون وعلى ضلال مبين. لا أبشع من أن تعيش حياتك كأنك ميت بالأمس، وأن بقاءك على قيد الحياة، هو صدفة. ثم، لا أبشع من أن تشعر دائماً، أنك مستهدف، لبراءتك. وأن خلف كل ذلك، «ظلاميين» يشنون الحروب على الشعوب، لا لكي يربحوها، بل ليذبحوها، على سُنة السيف.
المخاطر التي عبرها لبنان حتى الأمس القريب، هي من النوع المعروف والمتداول والمحسوب. ما ينتظر اللبنانيين، تسونامي تكفيري، أثبت أنه قادر على الفتك والاقتلاع في العراق وسوريا، وهو يشن موجاته الأولى في لبنان وقد بلغ مصر، مستثنياً إسرائيل بالطبع.
لا مبالغة في توصيف المخاطر القادمة. هؤلاء التكفيريون، ليسوا مشروع انتصار «لقضيتهم»، بل هو مشروع انتحاري لهم، أكثر من أعدائهم. أعداء التكفيريين، العالم كله. يخوضون حرباً، من أجل الحرب بوسائل حربية لا تخضع لقوانين ولا تلتزم بمعايير. هي حرب من نوع «عليَّ وعلى أعدائي»، ولا يبقى بعد ذلك إلا ما يشبه سدوم وعمورة… فابكي يا راحيل، وارفعي صراخك يا أمة النكبات.
لم يعد جائزاً أن لا يكون «14 و8 آذار» في حلف واحد، ليس رباعياً لتأليف حكومة. بل حلف واحد، لمواجهة حرب التكفيريين على اللبنانيين، سنة وشيعة، وخوارج عليهما، من أهل الطوائف والمتحررين منها.
فلنتعلم من العدو الإسرائيلي قليلاً، فلديه ما يفيد حالتنا. منذ سبعة أعوام أصدر رئيس الموساد الأسبق افراييم هاليفي كتاباً بعنوان: Mémoires d'un home dans l’ombre. ينصح فيه المسؤولين الإسرائيليين، بالتعامل مع المستحيل. ففي تفنيده للمخاطر التي يمثلها تنظيم «القاعدة»، رأى أنها خطر شامل، لا يتقيد بقواعد الاشتباك المتعارف عليها في الحروب، أو بين الجيوش والتنظيمات المسلحة، ورأى أن قوة «القاعدة» متأتية من تفلتها هذا، فيما قوة «حزب الله»، أقل خطراً على إسرائيل، برغم قوته، لأنه يتقيد بقواعد الاشتباك، وكذلك «حماس»… «القاعدة» خطر أعظم. علماً أن ما أصاب إسرائيل منها قليل ونادر. ومع ذلك، يقترح هاليفي إقامة حلف دولي، من المتضررين، يضم كل الأطراف المتعادية، لأن الخطر يوحدهم.
أمتنع عن ذكر ذلك وكيفيته في هذه المقالة، لأن ما أقترحه هو المستحيل. ولكنه مستحيل بدأ يتحقق. فالذين يقاتلون التكفيريين اليوم، هم أعداء ألداء لبعضهم البعض. من أسمائهم تعرفونهم.
فهل، بعد كل ذلك، تفهم الطبقة السياسية المتعادية، أن مصلحتها هي في تحقيق «المستحيل»، عبر التغاضي كما التغاضي الكبيرة مؤقتاً، وركنها جانباً، والتعاطي مع هذا الخطر الأعظم؟
إذا لم يحدث ذلك، فإن لبنان سيكون مستحيلاً، والحياة فيه مستحيلة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى