التمرد من ديوجين إلى كامو
السؤال عن التمرد متواشجُ مع نمط الحياة ونسق التفكير وقد تراود الإنسانَ الرغبةُ للتمرد على المتعارف عليه والانشقاق عن التيار الغالب معلناً بروحية مغامرة عدم الإنضواء إلى الكيانات المُتَهالكة غيرَ أن الاستمرارية على هذا المسلك لايتحملُ ثمنها سوى من يكون شديد المراس.
ولا مُغالاة في القول بأنَّ التمردَ نزعةُ وجودية متجذرةُ في تاريخ الفكر الإنساني لكن لاتعبرُ عن نفسها إلا من خلال الفرد مُتمظهرةً في المواقف والإكتشافات وبذلك يختلفُ التمردُ عن الثورة فالجموعُ محركُ رئيسي في الحالة الأخيرة.
أكثر من ذلك فإنَّ التمردَ يُمثلُ وعياً ناشئاً من الشعور بإكراهات الواقع الذي يحكمُ بالدوران ضمن اختيارات محدودة لذلك لايكونُ المتمردُ مندمجاً ضمن مشاريع هادفة إلى مايبدو في الظاهر تحولا نوعياً ولكن في الحقيقة ليس إلا تغييراً في الجزئيات وهذا دون مستوى توقع العقلية المتمردة إذن مايكونُ مبدئياً بالنسبة إلى المتمرد هو أنَّ الملل المؤقت لايحددُ مواقفه بخلاف الثوري الذي قد ينضمُ إلى تياراتٍ رافضةٍ للوضع القائم إثر الشعور بالسئم.
يقولُ ألبير كامو على لسان إحدى شخصيات مسرحية “العادلون” (لاأحب الأشخاص الذين يصبحون ثواراً لأنهم يشعرون بالملل) والكلامُ عن التمردِ يستدعي الإشارة إلى ضرورة إدراك الفرق بين التمردِ والمواقف الاستعراضية وإطلاق العنان للمظاهر الرافضة من خلال الملبس أو الشكل في الواقع أنَّ كل ذلك ليس إلا قشوراً وأبعد مايكونُ عن حقيقة التمرد.
لعلَّ مايقولهُ الشاعر أنسي الحاج عن المتمرد هو المدخل الأمثل لندلف نحو مايقدمه الكاتب العراقي علي حسين في مؤَلَفه الصادر حديثاً “المتمردون” عن حياة وتجارب أسماء أبت أن يكون حضورُها مسجلاً في المَلعب التقليدي، فبرأي صاحب “ماضي الأيام الآتية” أن التمردُ صفة الوديع وهو يضيق صدره بالظلم ليس التمردُ غضب الأحمق ولا بغضاء المبغض ولا غيرة الحسود. مضمونُ هذه العبارة يذكرك بسقراط والحلاج و جوردانو برونو وكامو ما يتقاطعُ فيه هؤلاءُ هو نفس طامح إلى كشف الغطاء عن حقيقة كل مايُقترفُ باسم الأخلاق والشريعة والمقدس والثورة من المظالم.
الغرام
حلقات سيرة علي حسين لاتنفصلُ عن الكتب التي صاحبته منذ يفاعة عمره إلى أنْ أصبحَ هذا العالم الأثير ليس له بديلُ بالنسبة إليه وهو مشاركُ فعلياً في تقاسمِ حصاده المعرفي مع غيره من المتابعين.يشيرُ صاحب “غوايات القراءة” في المقدمة إلى مايراه مبدأً في عملية مشاركة الآخرين في قراءاتك فبنظره لايمكنك أن تنجحَ في هذه المهمة وتتناول عالم كاتب من طراز تولستوي أو جيمس جويس أو ترتادَ الأفق الفكري لشخصية سبينوزا باحثاً عن مستنداته الفلسفية إذا لم تكنْ مُغرماً بهؤلاء كما أنَّ مايسرده المرءُ شفاهةً عن الكتب وخطوطها الأساسية يختلفُ تماما عن فعل الكتابة.لأنَّ ما يسجلُ كتابةً يتركُ أثراً وقد يثير إشكالية لصاحبه حسب وجهة نظر “علي حسين” لذلك فإنَّ المغامرة في هذا المعترك لابُدَّ أن تكون محسوبةً.
وفي ذات السياق يتطرقُ حسينُ إلى آراء مشاهير الفكر بشأن دور القراءة فكانت قراءة ألبير كامو لأول كتاب في حياته تُضاهي الخطوة في أرض مجهولة كما أنَّ القراءة يمكن أن ينقذنا من العبث حسب اعتقاد مؤلف “الغريب” وبدوره رأي مارسيل بروست في القراءة وظيفة استشفائية فأراد من خلالها التخفف من معاناته مع مرض الربو. يشيرُ صاحب “مائدة كورونا” إلى ما ألفه كامل زهيري بعنوان “الغاضبون” ودور هذا الكتاب في معرفته برموز التمرد إذ ما إن يتصفح المحتوى حتى يقعَ نظره على صورة رجل بسحنة تائهة.بجوارها عبارة مكتوبة تصفحُ عن وعي حادٍ بمكر الشعارات ومطب التعارض بين المعلن والمُضمر في الخطابات الثورية.
“أية ثورة تتخلى عن الشرف تتخلى عن مبادئها،لأنَّ الثورة قبل كل شيء هي الشرف” إذن كان “الغاصبون” مفتاحاً لعالم المتمردين تنبسطُ على صفحاته حيثيات الحراكات الغاضبة والمبارزات الفكرية بين ماركس وباكونين ومناهضة طلبة فرنسا للأعراف والمفاهيم التقليدية يذكرُ إن كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” لهربت ماركوز كان مُلهماً لحركة 1968 الطلابية في فرنسا.واللافتُ إنَّ أبرز من يُمثلُ التمردَ قد بدأ احتجاجه من البرميل كان ديوجين الكلبي غير مألوفٍ في سلوكياته التي قد بدت للبعض عبثاً ولكن غايته من كل مايبدرُ منه هو الإبانة عن دروب جديدة للعيش لذلك كان يبحثُ عن الإنسان في ضوء النهار ماسكاً الفانوس بيده.كأنه أراد إبلاغ معاصريه بأنَّ الجوهر مغمورُ تحت طبقات من المظاهر المُضللة.
ومن المعروف عن الكلبيين التزهد هذا فضلاً عن التحلي بالتواضع، وإعادة النظر بالمواقف ونحت الأفكار الفلسفية من مصادر واقعية حيبة.
ومانُقِلَ عن الحوار المُتبادل بين أسكندر وديوجين يؤكدُ وجود التطابق الكامل بين نمط الحياة والمبدأ المعرفي لدى الفيلسوف الصادم الذي كان يؤمن بأنَّ الحكمة لابُدَّ أن تؤدي إلى البساطة والحرية والأمان.والغاية القصوى من المعرفة ليست إلا تحقيق السلام الداخلي.يتناولُ علي حسين بوادر موجة التمرد في مفصل آخر من الكتاب مشيراً في هذا الإطار إلى مساعي المسرحي البريطاني “أوزبورون” لتحويل “الإنسان المتمرد” عملاً مسرحياً، ويتمكنُ أخيراً من تقديم مسرحية “انظر إلى الوراء بغضب” في 1956 وبذلك أصبحَ هذا العمل المسرحي رمزاً لجيل غاضب.كما اتخذ صاحبه الموقع في صف الأيقونات المُلهمة لعددٍ من المبدعين.
كانت السنوات التي أعقبت الحرب العالية الثانية قد شهدت غلياناً فكرياً ونشأت في الأجواء المشحونة بروحية رافضة إبان هذا العهد المثخن بخسارات الحرب مذاهب فكرية وتيارات فنية خارقة للسنن السائدة.
موجة العبث
مما لاشك فيه أن الشعور بالعبث ليس جديداً على الفكر البشري، وما واجه الإنسان من الأحاجي قد حدا به إما نحو التقشف وعدم الانجرار وراء الإغراءات التي ما إن تنقطعَ حتى تخلف أشباحاً هامدة أو اختار الانغماس في الملذات.
على أيةِ الحال فإنَّ العبث يتغلغلُ في كل مناحي الحياة.ويطال الاتجاهات الأدبية والفنية نتيجةً للانهيارات الناجمة من الحرب.ولم يكن المذهب السيريالي سوى انطلاقة هادفة لصياغة لغة جديدة توافق حساسية جيل مسكونٍ بروحية مغامرة.يقول رائد السيريالية أندريه بريتون عن مدلول هذا المصطلح الجديد موضحاً بأنَّه “عبارةُ نفسية صرفة تدلُ عبرها إما لفظاً أو كتابةً أو بأي طريقة أخرى على النشاط الحقيقي للفكرة في غياب أي رقابة يمارسها العقل خارج اهتمام جمالي أو أخلاقي” مع أنَّ المتمرد حسب رأي بريتون لايحتاجُ إلى الإنتماء إلى الأجداد.
ولكن هذا لايعني بأنَّ هذه الحركة قد بدأت بدون المستند بل يعترف بأنَّ ما طالبه رامبو بتغيير الحياة وماكان يريده ماركس بتحويل العالم فهذا الشعاران كل واحد في برنامج السرياليين.أزيد من ذلك فإنَّ الفتوحات المعرفية قد ألقت بتأثيرها على مباديء السيريالية فكان كل من بريتون وسيلفادور دالي يمثلان إمتداداً لما توصل إليه فرويد عن مؤثرات اللاوعي في النشاطات البشرية.
يشارُ إلى أنْ الصداقة الفكرية تجمع بين بريتون وليون تروتسكي فالأخير إلى جانب دوره القيادي في الصورة البلشفية وتشكيله للجيش الأحمر كان منخرطاً في ميدان التنظير الفكري.
تسجلُ الكاتبة البريطانية آيريس مردوخ حضورها في الوسط الفكري بإصدار كتابها الأول عن جان بول سارتر في 1953 قبل هذا التاريخ بتسع سنوات تلتقي بصاحب الوجود والعدم ولم تُصدق أنها أمام فيلسوفها الأثير.ومن المعلوم أن شعبية سارتر كانت تفوقُ ما يحظى به نجوم السينما من الجماهيرية، ويُعزى له الدور الريادي في صرف الأنظار نحو الفلسفة بحيث ساد الاعتقاد بأنَّ الفلسفة خُلقت للجميع ستفردُ مردوخ روايتها المعنونة ب “تحت الشبكة” لمعالجة فكرة التمرد، وأعلنت بأنها ستظلُ تقاتلُ تحت راية سارتر، ولاتؤمن بأدب لايغضب القارىء.
تتابعُ الأسماءُ المساهمة في تشيكلة فكرة التمرد بين دفتي الكتاب، وبالطبع لايمكنُ أن يفتحَ القوس على مفهوم التمرد دون التوقف في محطةِ ألبير كامو الذي ضرب بأسطورة سيزيف مثلاً لحياة الإنسان وتخبطته في البحث عن المعنى كان كامو متفرداً في نشأته إذ عانى من المرض وذاق مرارة الفقر لكن مع ذلك احتفى بالحياة على طريقته وأدرك مبكراً بأنَّ الأنسان يسبقُ المنحوتات الآيدولوجية من حيث القيمة والأهمية.والحال هذه لم يكن من المستغرب أن لايتمَ الترحيب به داخل التشكيلات الحزبية .إلى جانب ماور ذكرهم آنفاً فإنَّ ما ألفه علي حسين يتسعُ لرموز أخرى بدءاً برامبو وهنري ميللر ومروراً بأميل سيوران وجيل دولوز وجان جنيه وليس نهاية فرانسواز ساغان ويوجين يونسكو وهارولد بنتر ومايجمع بين هؤلاء هو الرغبة في تقويض القواعد وإيجاد مساحة جديدة للعبة.
ومايجدر في هذا المقام أنَّ ما يقدمه علي حسين في مؤلفاته يفيدُ المختص والقارىء فإنَّ مايتوخاه الكاتبُ هو نشر المعرفة على نطاق أوسع. والمتابعُ لوحدات كتابه الأخير يتوصلُ إلى مايتميزُ به المتمردُ فكرياً إذ لايوكلُ إلي غيره مهمة مواجهة أسئلة مضنية بدلاً منه.