
الثقافةُ ليستْ كلماتٍ منمَّقةً أو خطاباتٍ جوفاءَ، بل هي انعكاسٌ للأخلاقِ الرفيعةِ؛ التي تذيبُ العصبيّاتِ الضيّقةَ في علاقةٍ إنسانيّةٍ أكثرَ سموّاً، المثقَّفُ الحقيقيُّ هو مَن يُؤثِّرُ في اللحظاتِ الحرجةِ بحكمتِهِ ومواقفِهِ الواعيةِ، لا مَن ينجرفُ وراءَ الانفعالاتِ الضيّقةِ في أوقاتٍ تتطلّبُ التعقُّلَ والمسؤوليّةَ.
لكنْ مِنَ المؤسفِ أنَّ البعضَ، بعدَ سقوطِ النظامِ، انشغل بصراعاتٍ جانبيّةٍ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، حيثُ ظهرَ مَنِ اختلقَ بطولاتٍ لا وجودَ لها، وراح يزايد على مَن قدَّمَ تضحياتٍ حقيقيّةً في المقابلِ، نجدُ الرئيس أحمدَ الشرعَ، رغمَ كلِّ ما قامَ به، لم يدَّعِ بطولاتٍ زائفةً، لأنَّ البطولةَ ليستْ في الصراخِ والادِّعاءِ، بل في الفعلِ الحقيقيِّ.
فأنْ تكونَ مثقَّفاً ناضجاً يعني أنْ تُميِّزَ بينَ الحماسةِ الجوفاءِ والموقفِ المتزنِ، وأنْ تُدركَ خطورةَ الانجرارِ وراءَ شعاراتٍ لا تُدركُ أبعادَها، فغيابُ الوعيِ النقديِّ يجعلُ البعضَ يكرِّرُ أخطاءً كانَ ينبغي التعلُّمُ منها، بدلًا مِنَ الوقوعِ فيها مجدَّداً.
وما أحوجَنا اليومَ إلى اليقظةِ والاستفادةِ مِنْ دروسِ التاريخِ التي كلَّفتْ شعوباً كثيرةً أثماناً باهظةً، ففي العراقِ الشقيقِ مثلًا، كانتْ حادثةُ شباطَ (2006م) شرارةً أشعلتِ العنفَ الطائفيَّ، ومزَّقتِ المجتمعَ لسنواتٍ، سوريا اليومَ بحاجةٍ إلى التكاتفِ والوعيِ، بعيداً من التمييزِ والإساءاتِ التي لا تجرُّ سوى الويلاتِ على الجميعِ.
فالعاقلُ مَن يتعلَّمُ مِنْ تجاربِ الآخرينَ، لا مَن يكرِّرُ أخطاءَهم، لذلك، لا بدَّ مِنْ مواجهةِ كلِّ مَن يسعى إلى إشعالِ الفتنِ الطائفيّةِ والمذهبيّةِ والعرقيّةِ، لأنّها لا تخدمُ إلّا أعداءَ البلادِ وتُدمِّرُ مستقبلَها.
ولنكونَ وطنيّينَ بحقٍّ، علينا أنْ نكونَ أوَّلاً إنسانيّينَ، فالإنسانيّةُ ليستْ شعاراً، إنّما هي القدرةُ على تحويلِ المعاناةِ إلى أملٍ، يؤسِّسُ لمستقبلٍ يليقُ بتضحياتِ هذا الشعبِ، بعيداً من العصبيّاتِ الضيّقةِ والتحزّباتِ العقيمةِ، ربّما نسيَ البعضُ، وسطَ الصراعاتِ والاتهاماتِ المتبادلةِ، أنّهم أحفادُ حضارةٍ قدَّمتْ للعالمِ أقدمَ أبجديّةٍ مكتشفةٍ، وأنَّ مملكةَ إيبلا كانتْ جسراً بينَ الشرقِ والغربِ منذُ آلافِ السنينَ، هذه الريادةُ الثقافيّةُ والإنسانيّةُ تفرضُ علينا مسؤوليّةً مضاعفةً للحفاظِ على هذا الإرثِ العظيمِ، لا الانجرافِ نحوَ نزاعاتٍ عبثيّةٍ لا طائلَ منها.
وما الخوفُ مِنَ المستقبلِ، والتخبّطُ في بحرِ الشائعاتِ، إلّا نتيجةٌ طبيعيّةٌ لغيابِ التفكيرِ النقديِّ وإهمالِ قراءةِ الأحداثِ بعينٍ واعيةٍ، فحينَ نرفعُ الصوتَ مُوحَّداً على الظلمِ والاعتداءِ على أيِّ مكوّنٍ مِنْ مكوّناتِ المجتمعِ، نكونُ قد بدأنا الخطوةَ الأولى نحوَ الحرّيّةِ الحقيقيّةِ. فإمّا أنْ نكونَ أحراراً موحَّدينَ، وإمَّا أنْ نخسرَ وحدتَنا في صراعاتٍ لا تخدمُ سوى مَن لا يريدُ الخيرَ لهذا الوطنِ.
في النهايةِ، الخطابُ الثقافيُّ بلا صدقٍ يتحوّلُ إلى ثرثرةٍ عقيمةٍ، تُنتجُ فراغاً فكريّاً، يملؤهُ العبثُ والضجيجُ، فشتّانَ بينَ مَن فتحوا أجنحتَهم للحرّيّةِ، فملؤا الأفقَ شدواً وبهاءً، ومَن ظنّوا أنَّ مجرّدَ كسرِ القيودِ يكفي للتحليقِ، فوجدوا أنفسَهم بلا وجهةٍ.
فلنكنْ مِنْ أولئك الذينَ يُحسنونَ التحليقَ، ويبنونَ لسوريا مستقبلاً يليقُ بها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر