الثقة في النفس

 

من أين تأتي الثقة في النفس؟ لماذا بعض الناس أكثر ثقة من الآخرين؟ هل هي مسألة مزاج أم هي ثمرة عمل على النفس ؟ ما علاقة الثقة في النفس مع الثقة في الآخرين، ومع الثقة في الحياة نفسها ؟ هي أسئلة يحاول الفيلسوف المبرز تشارلز بيبين الخوض فيها بالاعتماد على النصوص العظيمة في الفلسفة والحكمة القديمة وعلم النفس، ولكن أيضا في تجربة بعض الرياضيين والفنانين أو حتى مجهولي الهوية، ليشرح لنا سر الثقة في النفس في كتابه “الثقة في النفس: فلسفة”(la confiance en soi : une philosophie  الصادر عن دار النشر ألري Edition Allary سنة 2018).

إن الثقة في النفس هي أن تفتح النفس على ما تعبر عنه فينا، وأن نعرّضها لمفاجآت الحياة، وبعبارة أخرى، “أن نذهب”، على عكس أساليب التطوير الشخصية أو المدربين الذين يصرون على أساليب التمكن. ولم يجعلها الفلاسفة موضوعًا معينًا للدراسة، لكنهم قد اقتربوا منها بشكل غير مباشر. فالوجودية القائمة على السارترية، على سبيل المثال، تستند إلى الثقة التي يتمتع بها كل فرد بمفرده، أما نيتشه فيؤكد على أن كل فرد يمتلك شخصية أصلية. يقول المؤلف “هذا ليس موضوعا فلسفيا معتادا”، إذ “لا يتحدث الفلاسفة عنه إلا بشكل غير مباشر”، مشيدا في هذا الصدد بالفيلسوف الأمريكي رالف والدو إيمرسون الذي ربما يكون  الفيلسوف الوحيد الذي أخذ على محمل الجد موضوع الثقة في النفس، والذي كرس له مقالة قصيرة سنة 1841.

يشير المؤلف إلى أن “ما تسعى إليه الفلسفة هو إظهار أسس الثقة بالنفس″، ويضيف “يقول لك جميع علماء النفس: إذا كنت ترغب في اكتساب الثقة في نفسك، فما عليك إلا أن تتصرف وتنتقل إلى الأجرأة”، في حين يؤكد الفلاسفة على العمل، ويظهرون أن العمل ليس مجرد أرضية تدريب لبناء الثقة في النفس، ولكنها فرصة للالتقاء بالعالم، وللقاء الآخرين، ومقابلتهم”. آنذاك تغدو الفلسفة ممارسة للحياة ووسيلة للعيش بشكل جيد وسعيد في المقام الأول وليست مجرد خطاب نظري صرف.

بالنسبة إلى تشارلز بيبين فإن الثقة في النفس، وعلى عكس ما نعتقد، تأتي أولاً وقبل كل شيء من الآخرين وعلاقتنا ببيئتنا. ومع ذلك، “فإنني أشارك المدربين عندما ينصحون بالعمل، وممارسة اتخاذ القرار بشأن الأشياء الصغيرة. فالعمل كيفما كان يساعد على كسب الثقة”، فالثقة في النفس هي عملية جماعية وليست شخصية، يقول في هذا الإطار “أعتقد أن الثقة في النفس محققة بالفعل في العلاقة مع الآخرين وفي العلاقة مع العالم، دعونا نأخذ على سبيل المثال: طفلا صغيرا قلقا جدا (…) كيف نريد أن يثق هذا الرجل الصغير في نفسه؟ إن الثقة ستأتيه من الآخرين. سوف يطمئنونه، ويحبونه، ويحمونه، ويقدمون له النصيحة، إنهم يفعلون شيئين مختلفين: أولاً، يضعونه موضع ثقة، وثانيا، يثقون فيه”. ففي عصرنا الحالي الذي يركز على الفردية والأنا، نريد أن يعتقد الناس أنهم بحاجة إلى تطوير مهاراتهم الخاصة لاستعادة الثقة في النفس. لكن فوق كل شيء نحن كائنات عاقلة. فالطفل بمجرد أن يأتي إلى العالم يصبح كائنا تابعا، يأخذ الثقة في نفسه فقط شريطة الحصول أولاً على الثقة في المحيطين به. وكما قالت آن دوفورمانتيل وهي محللة نفسية “لا يوجد نقص في الثقة بالنفس، وعندما نفكر في أننا نفتقر إلى الثقة في أنفسنا، فإن ما ينقصنا فعلاً هو الثقة في الآخرين”.

إن أفضل طريقة لتحرير الطفل الصغير من القلق هي حمايته وتأمينه وحبه. وهذا يعني، منحه الأمن الداخلي، تلك الهدية التي هي أساس كل شيء. سوف يضعه الوالدان بشكل تدريجي في الثقة، ثم يثقون فيه، يمكنهم أن يعطوه مهمات للقيام بها، وسواء أنجح في المهمة الموكولة إليه أو فشل فيجب تشجيعه، وهنا يبدأ في اكتساب الثقة. وفي بعض الأحيان، فإن الأمر يتطلب مجرد معلم ملهم وكل شيء سيتغير. وبالمثل، فإن إخبار الطالب الذي حصل على نتائج سيئة “أعطيك ثلاثة أشهر لتصويب المسار وأنا أثق فيك، وأنا أعلم أنك ستصل إلى ذلك”، فإن لذلك وقعا إيجابيا نحو تحقيق الأفضل. ويقترح تشارلز بيبين تأملاً حول هذا المورد الذي نفتقر إليه أحيانًا في حياتنا. فبدلاً من التفكير في الثقة في النفس كمسألة تتمحور حول الفرد، يوسع الفيلسوف دائرة هذه القضية لتشمل المقربين من الآباء والمدرسين والأصدقاء… إن الثقة في النفس هي أيضا الثقة في الآخر، والثقة في قدراته، وأخيرا الثقة في الحياة. إن هذه المصاحبة تعمل على تطوير الأمن الداخلي للفرد مما يفضي إلى المزيد من الجرأة في حياته. ولكن إذا كان بناء هذا الأمن الداخلي غير موجود في سنواتنا الأولى، فإنه يمكن أن يحدث ذلك لاحقًا بفضل ثقة الآخرين.

يعرض المؤلف لمجموعة من هذه الحالات، خصوصا المغنية الأميركية مادونا التي عانت صعوبات جمة في طفولتها: لا مبالاة الأب ووفاة الأم بالسرطان. غير أن معلم رقص الباليه شجعها وبيّن لها مدى تميزها وموهبتها في الرقص والغناء. هذه النظرة سوف تغيّر حياتها، وفي نهاية عرض السنة، تكتشف الطالبة نفسها أمام جمهور مدهش، لقد وُلدت نجمة الروك. بالإضافة إلى هذه القصة يستشهد المؤلف بقصص أخرى لمجموعة من المشاهير الذين حققوا نجاحات مبهرة من قبيل المجموعة الغنائية البيتلز وعدد من الكتاب مثل جورج ساند، ولعدد من الرياضيين كالشقيقتين ويليامز، ومتسلق الجبال إريك ديكامب.

لا يقدم كتاب تشارلز سلسلة من الوصفات التي يجب تطبيقها بحذافيرها، وإنما نصائح عملية ومن خلال أمثلة ملموسة تقودنا إلى التأمل، وتُظهر لنا كيف يمكننا أن نحصل على ثقة أنفسنا، ومجابهة تحديات الحياة ومفاجآتها غير المتوقعة والتخلص من مخاوفنا وهواجسنا التي تقيد الطموح وتكبح رغباتنا. يقول المؤلف “إن الثقة في الحياة هي الرهان على المستقبل، والإيمان بالقوة الخلاّقة للعمل، والتعبير عن عدم اليقين بدلاً من الخوف منه…”. إن الثقة في النفس لا تكمن في الثقة بأن “الأنا” قوية للغاية وخالية من أيّ عيوب. بل على العكس، فإن الذات التي نتحدث عنها هنا هي استسلام ذاتي لسر العالم، ذلك أن الثقة في النفس هي الثقة في الحياة.

وفي المقابل فإن الحكم على النفس نهائيًا أمر سيء بالنسبة إلى ثقة المرء في نفسه. فقد تكون للفشل فضائل لا تحصى، فمواجهة الفشل والتصريح به يعد جرأة محمودة، والحياة مغامرة محفوفة بالمخاطر، لذا على المرء أن يثق في نفسه لتجربة المغامرة. وما على المرء إلا أن يفكر، على صورة سارتر أو فرويد أو لاكان أو رواقيّي العصور القديمة بأن الثقة في النفس تعتمد أيضًا على معرفة أنفسنا ورغبتنا في سعينا للسير قدما في هذه الحياة.

“الثقة في النفس: فلسفة” كتاب مثير للتفكير، منير لأسرار الثقة في النفس. ولكن أيضًا للحياة وطريقة فهمنا لها. فهو يساعد على إثارة الكثير من المواقف الإيجابية. يستكشف فيه الفيلسوف تشارلز بيبين ينابيع الثقة في النفس، متوسلا بنصوص الفلاسفة والحكماء والمحللين النفسيين وتجارب الرياضيين والفنانين، ليبين لنا كيف نثق في قدراتنا على الرغم من صعوبات الحياة ومشاقها.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى