الجمل والحصان وصورة العربي الذهنية

يقول خبراء الإعلام والسياسة إن بناء الصورة هو أحد الشرائط الضرورية لتسويق الأمم لنفسها في العالم بسلاسة، ومن أهم مكونات الصورة التي التفتت إليها الأمم المختلفة مبكراً الحيوانات المحببة وحاملة الصفات التي تريد تلك الأمم أن تنسبها لنفسها. على ذلك، فقد قرنت الصين نفسها وصورتها بالتنين، وهو الذي يرمز إلى المهابة والقوة، فيقال للإشارة إلى ضخامة النفوذ الصيني «التنين الصيني». أما روسيا فقد تماهت مع الدب حتى صار قول «الدب الروسي» شائعاً بين المحللين السياسيين لوصفها، فيما انتخبت فرنسا لنفـسها رمز الديك؛ بما فيه من جمال ريش ورشاقة. حتى الحزبان الكبيران في الولايات المتحدة الأميركـية، الديمـوقراطي والجمهوري، اختارا الحمار والفيل على التوالي رمزين لهما. في المقابل، نجحت الصور الاستشراقية السياحية في تسويق الجمل باعتباره دالاً على العرب وحضارتهم، بدلاً من الحصان. هكذا تنتشر حول العالم تلك الصور التي ترى فيها الجمل متسخاً وفاغراً فاه بشكل يوحي بالغرابة والكسل، على خلفية حضارات منقرضة مثل الأهرامات أو آثار بعلبك أو جرش في الأردن أو إلى جوار سيارة حديثة في الصحراء العربية، في إشارة مبتذلة إلى التصادم بين الماضي والحاضر أو حضارة العرب وحضارة الغرب.

الخيل في الجاهلية

ارتبط العرب منذ قدم التاريخ بالخيل. وفي الأيام الخوالي دأب العربي على إكرامها وقرّبها إليه مثل أولاده، فكان يدخل فرسه إلى داخل خيمته ليبيت مع عياله في ليالي الشتاء القارس، في تجـسيد عملي لقول العرب الشائع «الحصـان أخو الإنسـان». ويقـول العرب إن أول من ركب الخيل واتخذها هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فلما شب أبو العرب أعطاه الله القوس فرمى عنها، فكان لا يرمي شيئا إلا أصابه. وتأسيساً على هذه المقـولة، قال النبي ـ صلعم ـ لاحقاً: «اركبوا الخـيل فإنها مـيراث أبيكم إسماعيل»، ولذلك سميت الخيل بالعِراب (بكسر العين). وتقول الأساطير إن نبي الله داود كان يحب الخيل حـباً شديـداً، حتى جمـع ألـف فـرس من أقاصي الأرض، فلما مات ورث ملكه النبي سليمان فقال: «ما ورثني داود مالاً أحب إلي من هذه الخيل». وتستطرد الأساطير العربية أن أفراس سليمان فتنته بجمالها ورشاقتها عن صلاته فضرب سوقها، ولم يبق منها إلا فئة قليلة. ووفد قوم من عُمان عليه بعدما تزوج من بلقيس ملكة سبأ، فسألوه أن يأمر لهم بزاد حتى يبلغوا بلادهم. فدفع إليهم سليمان فرساً من خيله قائلاً: «هذا زادكم! فإنكم لن تجمعوا حطباً وتوروا ناركم حتى يأتيكم بالصيد»، وهو ما كان بالفعل، فأطلقوا على هذا الفرس اسم «زاد الركب». ولذلك، فقد كان أول فرس انتشر في العرب من تلك الخيل وإليه تعود أنساب الخيل المؤسسة للسلالات العربية، ومنه أخذت بني تغلب أبو أفراسها «الهجيس»، ومن الأخير استطرقت بكر بن وائل «الديناري»، وعلى المنوال ذاته كانت رؤساء الخيل العربية من بنات «زاد الركب» مثل «جلوى الكبرى» و«جلوى الصغرى» و«ذي الموتة» و«القسامة» و«سوادة» و«الفياض».

الخيل في الإسلام

تعزز ارتباط العرب بالحصان مع ظهور الإسلام، الذي أمر باتخاذ الخيل وارتباطها، وهو ما لم يحدث في أي دين آخر، سماوياً كان أم وضعياً. على ذلك، احتفى النص القرآني بالخيل على وجه خاص في سورة العاديات (الخيل) وأيضاً سورة الأنفال، التي تعني فيها الخيل معاني الرباط والاستعداد، ما ثبّت مكانتها المعنوية. واتخذ النبي محمد – صلعم – الخيل وارتبطها، وأُعجب بها، وحض عليها وأعلم المسلمين ما لهم في ذلك من الأجر والغنيمة وفضلها في السهمين على أصحابها، فجعل للحصان سهمين ولصاحبه سهماً. فالفارس يفضل على الراجل بشيء مخصوص وليس ذلك إلا للحصان، فإن غيره من الدواب – إذا قاتل عليها الإنسان ـ لا يستحق شيئاً مخصوصاً، بل يرضخ له رضخاً ولو كان أعظم الدواب كالفيل. من أفراس النبي خمس: «لزاز» (أهداها إياه المقوقس عظيم مصر) والسكب ولحاف والسرحان والمرتجز (سمي كذلك لحسن صهيله). وامتلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فرساً كان اسمها «سابق»، أما جعفر بن أبي طالب فقد استشهد على فرسه «سبحة» في يوم مؤتة، فيما كان «الورد» حصان حمزة بن عبد المطلب، وكلها بالطبع من خيل بني هاشم. ومن خيول قريش «الأجدل» فرس أبي ذر الغفاري، و«اليعسوب» فرس الزبير بن العوام. ومن خيول بني هاشم أيضاً «ذو اللمة» وأصل اللمة الشعر الذي يلم بالمنكبين وهو فرس صاحب رسول الله عكاشة بن محصن الأسدي. أما «العقال»، فهو فرس الشاعر جرير، في حين أن «الأدهم» من خيل غطفان بن سعد وهو فرس عنترة بن شداد العبسي، الذي يقول فيه: يدعون عنتر والرماح كأنها … أشطان بئر في لبان الأدهم.
ومن خيل قريش التي خلدها التاريخ «أطلال» وهو فرس بكير بن عبد الله الشداخ الليثي، وكان مع سعد بن أبي وقاص وشهد موقعة القادسية، فيزعم الرواة أن الأعاجم لما قطعوا الجسر الذي على نهر القادسية وقد أحجم الناس عن عبور نهرها وخندقها، صاح بكير بفرسه «أطلال» وقال: وثباً «أطلال»! فالتفتت له وقالت: «أي وسورة البقرة»، فاجتمعت ثم وثبت، فإذا هي وراء النهر. ويقال إن عرض نهر القادسية يومئذ أربعون ذراعاً، فقال الأعاجم: هذا أمر من السماء فانهزموا. ويضرب العرب الأمثال بالخيل أيضاً، إذ إن «خصاف» من خيل باهلة وهي فرس سفيان بن ربيعة الباهلي، وهي التي قيل فيها: «لأنت أجرأ من فارس خصاف». وقصتها أن كان كسرى الفرس قد وجه جنداً عظيماً من المرازبة، فهابتهم مضر هيبة شديدة لما رأوا من سلاحهم ونشابهم وقالوا: «لا يموت هؤلاء أبداً». وكان سفيان بن ربيعة واقفاً على فرسه «خصاف»، فحمل على قول المرزبان، ويزعم أن سنان رمحه يومئذ قرن ثور من بقر الوحش، فطعنه حتى أخرج سنانه من بين كتفيه ثم قال: يا لقيس إنهم ليموتون، فقالت العرب «لأنت أجرأ من فارس خصاف».

الخيل بين السنة والشيعة

يعترف المسلمون السنة والشيعة كلاهما بصحة الحديث التالي للنبي (وهو أمر غير شائع على أي حال): «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة». وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الفارس يعطى سهمين (سهم له وسهم لحصانه)؛ مستدلاً بما فعله الرسول مع المقداد بن عمرو في يوم بدر، ومع الزبير بن العوام في يوم بني قريظة، ومع جميع الفوارس في وقعة بني المصطلق. ولكن الإمام ابن حنبل اعتبر أن للفارس ثلاثة أسهم، واحد له واثنان لحصانه، أما الراجل بدون حصان فله سهم واحد. واستدل على ذلك بما فعله النبي في غزوة خيبر وبقوله في فتح مكة: «إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهماً». وينقل الرواة أن علياً الأكبر بن الإمام الحسين كان يحمل على مبغضيه في كربلاء على حصانه «ذي الجناح»، فيما استعمل أبوه حصانه «لاحق». وتقول روايات إن الحصان خضب نفسه بدم الحسين وأخذ يضرب برأسه في وتد الخيمة حتى مات؛ لذلك ترى صورة الحصان الأبيض مرسومة في لوحات وجداريات يحتفظ بها المسلمون الشيعة في بيوتهم وحسينياتهم، كونه يشير وجدانياً إلى موقعة كربلاء.

الخلاصة

يعد الجمل – على ما له من مواهب ومناقب غير منكورة – شيئاً أقرب إلى الماضي والتخلف عن ركب التقدم في الذهنية المعولمة المعاصرة، فيما يعتبر الحصان رمزاً للرشاقة والجمال والتحمل والصبر ومتسقاً مع قيم العصر المعولم أكثر، ولكن الحصان العربي لا ينسب إلى حضارة العرب؛ بل إلى مالكيه المباشرين. على ذلك انتشرت اصطبلات الخيل العربي في الغرب على نطاق واسع، وأصبحت سباقات الخيل العربي تنتظم دورياً في العواصم الغربية، من دون أن تقترن في الأذهان بالضرورة بالعرب أو حضارتهم. ما زال العرب محبوسين في صورة الجمل النمطية، على الرغم من أنه يندر وجود حضارة في التاريخ لها مثل هذا الارتباط والحب بالحيوان مثل الحضارة العربية وارتباطها بالحصان العربي!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى