الحداثة السياسية‏..‏.رسوخ الفكرة الديمقراطية (د.أنور مغيث)

 

د.أنور مغيث

حينما كان فلاسفة السياسة القدماء يبحثون عن نظام الحكم الأصلح للبشر‏,‏ كانوا في الغالب ينفرون من الديمقراطية‏.‏ فهو نظام حكم يقوم علي استغلال عواطف الناس وعلي التلاعب واطلاق الشائعات. رجل الدولة في الحكم الديمقراطي يكون بالضرورة ديماجوجي في نظر أفلاطون الذي يشبهه بطباخ الأطفال الذي يعد لهم دائما أطباق الحلوي التي تسعدهم ولكنها تضر بصحتهم. لقد كان الاستبداد المطلق يسود العالم بأسره شرقا وغربا, ولهذا كان الفلاسفة منشغلون بالبحث عن صفات الحاكم الأفضل, فقال أحدهم هو الفيلسوف, وقال آخر هو النبي.
ظلت التجربة الوحيدة للديمقراطية في العصر القديم هي محدودة في الزمان والمكان في مجموعة صغيرة وهي مدينة أثينا وكان يشوبها استبعاد العبيد والنساء. ولكن الآن نري الديمقراطية نظاما يفرض نفسه في كافة أرجاء العالم, حتي أن الزعم بأن الديمقراطية نظام غربي يسعي الغرب لفرضه علي دول العالم الأخري لتكريس همينته, يكذبه اليوم تلك الجماهير التي تخرج من تلقاء نفسها في كل مكان تطالب بالدولة المدنية والمواطنة والانتخابات النزيهة.
يوجد إذن اقتران بين الديمقراطية والحداثة, فقد تأسست الديمقراطية علي نظريات العقد الاجتماعي التي جاءت لتطيح بفكرة الحق الالهي للملوك, وبالحكم الديني, أما لماذا جاء ذلك مع الحداثة, فيري توكفيل أن الديمقراطية فرضها التطور الذي أحرزته البشرية في مجال الحريات. ويري آلان تورين أن جوهر الحداثة هو العقلانية, وحينما ترجمت إلي مجال الفكر أعطت العلمانية, وفي مجال الاقتصاد أعطت الرأسمالية وفي السياسة أعطت الديمقراطية. ولأن الديمقراطية تطبيق للعقلانية فذلك يعني أنها أقل النظم تكلفة من الناحية الاجتماعية.
ومن منظور تاريخي ارتبطت الديمقراطية بصراع البرجوازية مع الاقطاع, ومؤسس مفهوم الديمقراطية الحديثة وهو الفيلسوف الانجليزي جون لوك حينما أراد أن يجعل نظامه قابلا للتطبيق اقترح علي السياسيين تطبيق الديمقراطية الضريبية. فنظرا لأن الديمقراطية هي نظام للدفاع عن المصالح في المجتمع فيلزم أن يعطي حق الترشيح والانتخاب لمن لهم مصالح فعلا, أما المعدمون فلا مصالح لهم. ولهذا ظل العمال والفلاحين أكثر من قرن بدون حق التصويت, ولكنهم ناضلوا من أجل الحصول عليه حتي تمكنوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, والنساء في النصف الأول من القرن العشرين.
اقترنت الديمقراطية إذن بمصلحة البرجوازية, ولهذا كان ماركس يصف الديمقراطية بأنها النظام الذي يسمح فيه للطبقات العاملة باختيار جلاديها مرة كل أربع سنين. ولكن النضال ضد هذا الوضع لم يتم بالانقلاب علي الديمقراطية ولكن بتوسيع مجالها وتعميقها. ومما ساعد علي ذلك مرونة الديمقراطية نفسها كنظام سياسي. فأوجه قصور الديمقراطية يتم ابرازها بآلات الديمقراطية نفسها. فلقد اعتبر جان جاك روسو أن اختزال الناس إلي مجرد أصوات انتخابية تفوض شخصا ليتخذ القرارات باسمها في البرلمان هو نوع من الدجل, وقد أدي هذا النقد لتعميق الديمقراطية بالمشاركة من خلال النقابات ومنظمات المجتمع المدني. بل ويدعو كثيرون لضرورة الاستفادة من الانترنت لتحقيق الديمقراطية المباشرة وليس التمثيلية. والدستور الأوروبي المقترح يلزم البرلمان بضرورة مناقشة أي موضوع يطالب به2 مليون مواطن أوروبي من خلال شبكة الانترنت.
لقد أدي هذا التطور إلي إنفصام الرابطة بين البرجوازية والديمقراطية. فمن أكثر الناس ضيقا بالديمقراطية كبار الرأسماليين والليبراليون الجدد. فطبقا لتعميم منطق اقتصاد السوق الذي ينادون به: لماذا يتم فرض حد أدني للأجور طالما هناك عاطلون يقبلون بأقل; ولماذا يجبر صاحب العمل علي التأمين علي العامل؟ ولماذا تلتزم الدولة بالتأمين الصحي علي المواطنين; ولماذا يقف سن المعاش عند الستين طالما زاد متوسط عمر المواطن؟ قيود كثيرة تريد الرأسمالية التخلص منها, ولكن الجماهير تستطيع فرضها من خلال الديمقراطية. ولذا يري الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي أن ظهور أفكار مثل الاشتراكية والشيوعية وانتشارها العالمي الكبير, كان قبل كل شيء تعبيرا عن قصور في الديمقراطية, ولا يمكن لهذه الديمقراطية أن تتقدم إلا من خلال استيعابها لهذا التطلع.
ورغم ذلك رأي بعض الفلاسفة المعاصرين مثل هانز يوناس أن الديمقراطية نظام سوف يتم تجاوزه قريبا بسبب مشكلة تدهور البيئة. فالديمقراطية هي دفاع المواطنين عن مصالحهم, وهذه المصالح تحديدا هي سبب استنزاف موارد الطبيعة وتدميرها; فلا يمكن للديقراطية أن تدافع عن الطبيعة ولاعن حقوق الحيوان ولا عن حقوق الأجيال المقبلة, فكل هؤلاء لا يوجد ممثلون لهم في النظام الديمقراطي. ولكن هابرماس يري أن حل هذه المشكلة لا يمكن إلا بمزيد من الديمقراطية التي تضمن للمواطنين حوار مجتمعي يخلو من التلاعب ويضمن الحق في المعرفة والمشاركة في اتخاذ القرار.
وتشهد الديمقراطية الآن مأزقا جديدا, فنتيجة للهجرات وحرية الانتقال صارت التعددية الثقافية في المجتمع مطلبا ديمقراطيا, ولكن يمكن لهذه التعددية أن تنقلب علي الديمقراطية باسم مبادئها فيتم احتلال السلوك الديني للمجال العام, أو تحدث العودة إلي تبعية المرأة للرجل وحرمانها من حقوقها باسم هذه التعددية, إن الديمقراطية مدعوة في كل وقت لمراجعة سلم القيم الذي تحمله, ويعاد ترتيب الأولويات.
لا يصل شعب للديمقراطية بمجرد رغبته فيها, إذ ينبغي أن تتوفر لها شروط موضوعية هي: الوعي السياسي للمواطنين, والاقتصاد المنتج والمنضبط, وعلمنة المجال السياسي حتي لا تتمكن القوي السياسية من تحصين أرائها ضد النقد باستخدام الدين. ولكن لاتوجد حضانة خارج مجال الصراع الاجتماعي يتم فيها وضع الناس حتي يصيروا ناضجين للمارسة الديمقراطية, فالديمقراطية توطد دائما دعائمها بالممارسة السياسية في الواقع.
وأخيرا تتسم الديمقراطية المعاصرة بأنها الآن لا تعمل في مجال سياسي قومي فحسب, بل في مجال سياسي عالمي. وكثير من صور الظلم والهيمنة والتفاوت بين الشمال والجنوب, سوف تصبح هي جدول أعمال النضال الديمقراطي علي المستوي العالمي. يري الفيلسوف نانسي أن أهم ما يميز الديمقراطية هي أنها روح قبل أن تكون نظاما. ولهذا فهي تظل دائما حاملة لتطلعات البشر.

صحيفة الأهرام المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى