الحرب المخترعة..

ـــ ١ ـــ

المدهش أكثر من تسمية ما يحدث حولنا بـ «الحرب» أنهم يطلقون على أبطالها ألقاب: «الزعيم» / «القائد» في سيطرة لخطاب مستعار بالكامل من لحظات انقضت، بلحظات كانوا يبحثون فيها عن «الخلاص» والحاكم / الاستثناء هو «مخلص» أو ما يشبه ذلك، ولا يمسي بوظيفته (رئيسا، أو مديراً لإدارة الدولة..) ولكن بموقعه من البلاد نفسها (ملهماً / راعياً / عاهلاً) إلى آخر هذه التسميات التي اختلط فيها عصر المخلص السياسي بعصور الإقطاع.

الأوصاف ليست دقيقة (لن نقول كاذبة…) لأنه يستحيل توصيف ما يحدث في اليمن على أنها حرب، وما زال الأمر متوقفا على غارات جوية، لم تثمر سوى الدمار والضحايا، كما ان الحلفاء يتنازعون على خطة الحرب، وباكستان اعلنت رفضها، ومصر مترددة لكنها اقرب إلى التمنّع.

ومن دون مشاركة مصرية وباكستانية ستبدو الحرب البرية لعبة في الفراغ الجبلي السعيد لليمن، لكن التلويح بالبري هدفه دفع الحوثيين إلى التفاوض من دون مشاعر التفوق (بالسلاح و السند الإيراني) او العداء (للوجود السعودي.. او استمرار الهيمنة منذ اصبحت اليمن حديقة السعودية التي لابد ان تكون جرداء لتشعر المملكة بالأمان..)

وهنا تتعارض مصالح ورغبات رهيبة حيث تلتقي، فالقوة المحركة للغارات السعودية هي: رغبة الشباب في تأسيس ثانٍ للمملكة على الحرب كما كان التأسيس الاول.

هذه الرغبة تلتقي مع مصلحة الخليج المحافظ (الذي ترتبت فيه العلاقات على يد البريطانيين وبرعاية الأميركان. لتتوزع السلطة والثروة توزيعها الحالي الذي لم يعد قادرا على تحقيق استقرار القاطرة في مسارها)…

لكن الرغبة نفسها تتصادم مع اوضاع حساسة بين الحكام والمجتمعات في دول مثل (مصر والباكستان)، وتتفارق مع قدرات من يريد قيادة «التحول» من موقع «الثبات».

ـــ 2 ـــ

وإذا أسميتها «حرباً».. فستبدو التسمية تغطية لشيء ما… أو لشغل الوقت المستقطع بين زمنين…

ولأننا بين زمنين غالبا كما تقول الإشارات…

ولأن ما حدث من خلخلة في الانظمة العربية وسمي «ثورة» او «الربيع العربي» وانتهى إلى حروب أهلية وانقلاب دولاتي (عسكري / بيروقراطي)، ليس الا فجوة زمنية بعد عصر انتهى اوقف الناس فيه «القاطرة» لانها لم تعد تحتمل… وظن المتفائل والباحث عن الخلاص ان هذه هي اللحظة الفارقة وسيتغير كل شيء! الا ان الفجوة فتحت، وما زالت مفتوحة…

والحرب تخترع الان اختراعا… من دون خطط ولا اتفاقات، وبتردد اكبر مما تتحمله الحروب، ولا يبقى منها سوى الدمار والضحايا بالآلاف… علامات رعب منتظر وحشد للناس علهم يعودون عن وقف مسار الزمن القديم… علهم يهتفون بعودة ما لن يعود…

كاتب الأرغواي ادوار غاليانو، الذي غادر قبل ساعات، له رأي في الحرب، بالتحديد في ابطال الحرب، وبالتحديد اكثر فيمن يصنعون من الحرب سلمهم إلى المجد او السلطة او اعادة تأسيس المُلك او احياء الامبراطورية…

من بعيد يصدر الرؤساء و الجنرالات أوامرهم بالقتل. هم لا يقاتلون إلا في الشجارات الزوجية. لا يريقون من الدم إلا ما يسببه جرح أثناء الحلاقة. لا يشمون من الغازات إلا ما تنفثه السيارات. لا يغوصون في الوحل مهما هطل المطر في الحديقه. لا يتقيأون من رائحة الجثث المتعفنة تحت الشمس، وإنما من تسمم ما في الهمبرغر. لا تصم آذانهم الانفجارات التي تمزق بشراً وتقوض مدناً، وإنما الأسهم النارية احتفالاً بالانتصار، ولا تعكّر أحلامهم عيون ضحاياهم.

ـــ 3 ـــ

ما الذي تغطيه هذه الغامضة المسماة «الحرب»؟…

الحرب تغطية على رغبة استمرار كل الاطراف الفاشلة، وهيمنة القوى الواحدة برغم فشلها، ومحاولة صناعة مغناطيس كبير لكل الناس الذي اوقفوا القاطرة، ودفعهم إلى لعبة الأبطال الجدد، المتصارعين على وراثة الانهيار.

كل اللافتات والرايات لن تساوي ثمن حرقها، وأبطال هذه «الحروب» ليسوا سوى دمى اعلام يغسل في عقول ميتة.. اما الضحايا فلهم الحق وحدهم في تأسيس المستقبل على قواعد لا يتكررون فيها… ليست يوتوبيا لأن اليوتوبيا قديمة، ولكن على اساس ان كل ما او من يبرر الموت ملعون… والاصل هو الحفاظ على الحياة لا اهدارها في سبيل اي شيء، اي شيء…

فكل ما يموت الناس هنا من أجله او بسببه الان، سيسقط في فجوة الزمن التي نعيشها كمثيرات للضحك الأسود.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى