الحرب على الحرب: إعلان أحكام عرفية

إعلان الأميركيين عن تشكيل الحلف العالمي لمحاربة الإرهاب (ضد داعش، هذه المرة) تمّ بنجاح كبير. انضم إلى الحلف عدد كبير من البلدان الغربية حرصاً على الطاعة، وانضم عدد كبير من البلدان العربية والإسلامية لضمان بقاء أنظمتها. ومَن لم ينضم، يقف في صف الانتظار، إلى أن يُسمح له بالانضمام. يتيح هذا الحلف العالمي تحقيق ما لا يتحقق في أحوال عادية، وهو قتل مَن يُشك به، في الميدان من دون محاكمة. لو اعتبر عمله جريمة لكان له الحق أن يحاكم، وأن يكون له محامون، وأن يترافع هؤلاء في قاعة المحكمة. انتزع هذا الحق، وأصبح الحكم يصدر عن موظفين بيروقراطيين يأخذون القرار بناء على ظنهم دونما حاجة لإثبات ارتكاب الفعل إثباتاً يتجاوز حدود كل شك. هناك حرب عالمية على الإرهاب، لكن مصطلح الإرهاب هو موضع نقاش كبير ولا اتفاق حوله (من قاموس الأمن العالمي لمؤلفه بول روبنسون). بدأ التعبير يُستخدم في أثناء الثورة الفرنسية بممارسة الدولة العنف ضد خصومها. ثم تطوّر ليطبّق على حركات التحرر الوطني مثل منظمة التحرير الفلسطينية والنمور التاميل و«حزب الله»، إلخ… وكان طبيعياً أن تُضم «القاعدة» وأخواتها لهذا الوصف. صار الإرهاب عنفاً تمارسه فصائل ضد الدولة؛ أما إرهاب الدولة (كالذي تمارسه إسرائيل، مثلاً)، فيتغاضون عنه.

من أجل معرفة الإرهابيين يتوجب على أهل السلطة مراقبة هواتف المواطنين وبريدهم وتحويلاتهم المالية وتفتيش منازلهم، إلخ… من دون إذن المحكمة. انقلب مبدأ: أنت بريء حتى تُدان، إلى مبدأ «أنت مُدان إلى أن تظهر براءتك». أما مبدأ البيّنة على المدعي فهو في خبر كان. هذا غيض من فيض، إذ إن هذه وغيرها من الحقوق المدنية لم يعد يؤخذ بها.

ما دامت الحرب بين الدولة من جهة وبين أفراد وجماعات من جهة أخرى فهي حرب غير متكافئة (Assymetric). أما الحرب ضد «داعش» فهي بين دول، ذلك أن «داعش» أعلنت نفسها دولة، وهذه تنطبق عليها قوانين الحرب، بحسب القانون أو الأعراف الدولية.

لكن الذي فجّر مبنى أوكلاهوما الحكومي في العام 1995، قد أُخضع للمحاكمة؛ كذلك الذي أنتج وأرسل الإنتراكس إلى مبنى الكونغرس في 2002. أما غير الأميركيين فلا تنطبق عليهم القوانين الدولية، لا محكمة الجزاء الدولية ولا اتفاق جنيف الرابع ولا غيرهما. قانون ينطبق على الأميركيين، وقوانين عشوائية تنطبق على غير الأميركيين. كلهم يعيشون على الكرة الأرضية، وكلهم بشر، لكنهم يخضعون لقوانين مختلفة على أرض واحدة. وهذا ما يسمى «التمييز العنصري» كما في أفريقيا الجنوبية سابقاً، وكما في إسرائيل حالياً.

دُمّرت مجتمعات ودول بسبب حرب الإرهاب، ذات المصطلح الملتبس؛ وستُدمر بلدان أخرى. والحكم الذي ينزل بالإرهابيين يكون عادة افتراضياً، مبنياً على الظن: لا على الظن بما لا يدع مجالاً للشك، مما سيضع بيد من إصبعه على الزناد قوة استنسابية كبرى. والذي يحرّك الزناد قابع في مركز القيادة لا يرى الضحايا، أو يرى أشباحهم هنا وهناك ويحكم عليهم بالموت.

دُمِّر العراق على أساس كذبة سلاح الدمار الشامل التي فبركتها السلطة. ولا ندري اليوم كمية الكذب في التهويل بقوة «داعش» وأخواتها. تستطيع الدول الكبرى أن تنجو بأكاذيبها، وتنال عطف جمهورها بالادعاء أنها تعمل لحمايتهم. فيما عدا 11 أيلول لم تُهاجَم الولايات المتحدة في أراضيها. أما بيرل هاربور فكان الهجوم الياباني على مستعمرة لم تصبح بعد ولاية. دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية كان ضرورياً كي تخرج منها قائدة للعالم. لا ندري ما هي قوة «داعش». التقارير التي نعتمد عليها صادرة عن مصادر استخباراتية غربية، وهذه لن تُعرف حقيقتها إلا بعد سنين. لكن ما نعرفه هو أن فائض القوة الأميركية يستدعي استخدام الجيوش الأميركية، وهي منتشرة حول العالم. وهذه القوة تعتبر أن كل ما يمكن أن يحصل من دون الرضى الأميركي يشكل خطراً على المصالح الأميركية القومية. فائض القوة يستدعي الإرهاب، والإرهاب يستدعي محاربة الإرهاب ومراقبة كل ما يجري، وما يمكن أن يحدث، وهذا يؤدي إلى تضاؤل الحقوق المدنية في وجه سلطة قوية تتذرع بحماية مواطنيها (من أي حدث في العالم، مهما كان حجمه).

فوائد الحرب على الإرهاب أي إعلان الأحكام العرفية، بالنسبة للسلطة التي تتحكّم بالعالم تختلف في الغرب عمّا هي في بلادنا. تفيدهم في الغرب بتقليص الحقوق المدنية من أجل تقليص مجال السياسة والحوار والنقاش الجدي حول سياسات اقتصادية واجتماعية ليست في مصلحة الغالبية من السكان. أما في بلادنا فهي تفيد في تثبيت وتأكيد حكم الاستبداد، والأهم من ذلك أنها تفيد في إدارة الحرب الأهلية، أو الحروب التي اشتد أوارها بعد غزو العراق في العام 2003، ثم بعد ثورة 2011 العربية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى