الحرب في أوكرانيا والنظام العالمي
بعد سنة من اندلاع الحرب في أوكرانيا تبين أن طرفيها روسيا والغرب، غير قادرين على حسمها بالضربة القاضية، وأن استمرارها لسنوات طويلة قد يؤدي إما إلى كارثة نووية أو إلى تغيير النظام الدولي.
تسببت الحرب في أوكرانيا في اندلاع صراع عالمي انخرطت فيه وتأثرت به معظم القوى الفاعلة والمؤثرة في الساحة الدولية، ما دفع بعض المراقبين إلى القول إن “حرباً عالمية ثالثة” بدأت بالفعل. ولأن هدف روسيا الحقيقي من إقدامها على شن هذه الحملة العسكرية لم يكن التوسع، وإنما منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف “الناتو”، فقد رأت الولايات المتحدة في هذه الخطوة تحدياً للنظام الدولي السائد، ومن هنا يأتي تصميمها على إفشال روسيا.
هي، إذن، حرب بين روسيا من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها، ومنهم أوكرانيا، من ناحية أخرى. لذا، يتوقع أن تكون لها آثار بعيدة المدى في بنية النظام الدولي السائد حالياً. ولأنها ما تزال مشتعلة حتى الآن، رغم مرور عام كامل على اندلاعها، فضلاً عن أن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ متى أو كيف ستنتهي، فسوف يكون من الصعب رصد مجمل تأثيراتها المحتملة في النظام الدولي وتحليلها. لذا، سنكتفي هنا بمجموعة من الملاحظات، يمكن إجمالها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى:
تتعلق بالأسباب والدوافع. فالحرب لم تندلع فجأة، بل لها جذور تعود إلى الأزمة التي اندلعت عام 2014، عقب ثورة موالية للغرب أطاحت النظام الموالي لروسيا، وعرّضت المواطنين من أصول روسية للخطر، ما دفع روسيا إلى التدخل عسكرياً، لتنتهي الأزمة مؤقتاً باحتلال القرم، والتوقيع على اتفاقيات مينسك التي تمنح إقليم الدونباس وضعاً خاصاً.
ولأن النظام الأوكراني لم يكن راغباً حقاً في تنفيذ تلك الاتفاقيات، اندلعت مواجهات عسكرية متكررة بين الجيش الأوكراني والقوات الانفصالية الموالية لروسيا في إقليم الدونباس. وخلال الفترة الممتدة بين أزمة 2014 وحتى قبيل اندلاع الحرب الحالية في شباط/ فبراير 2022، سعت روسيا للحصول على ضمانات أمنية تفضي إلى تعهد حلف “الناتو” بوقف التمدد شرقاً، والالتزام بعدم انضمام أوكرانيا إليه، وهو ما رفضته الولايات المتحدة التي راحت، على العكس، تشجع أوكرانيا على الارتباط باستراتيجيتها الأمنية، الأمر الذي عدّته روسيا تهديداً وجودياً لا يتيح لها أي خيار آخر سوى استخدام القوة لمنع أوكرانيا من أن تصبح شوكة في خاصرتها.
أما الولايات المتحدة، فقد رأت في حلف “الناتو” منظمة للدفاع الجماعي وليس للعدوان، لذا فمن حق كل دولة تنطبق عليها شروط العضوية أن تطلب الانضمام إليه. وعدّت واشنطن لجوء روسيا إلى القوة عملاً عدوانياً يستدعي من المجتمع الدولي رداً حاسماً.
يصعب تفسير رد الفعل الأميركي تجاه هذه الأزمة بالحرص على مساعدة دولة صديقة، علماً أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف “الناتو”، فضلاً عن أن تاريخ الولايات المتحدة في ما يتعلق باحترام القانون الدولي ليس مشرفاً.
لذا، فالتفسير الوحيد لرد الفعل الأميركي العنيف هو إدراك إدارة بايدن بأن هدف روسيا الحقيقي هو تغيير بنية النظام الدولي السائد، ما يعني زحزحة الولايات المتحدة عن موقعها المهيمن.
الملاحظة الثانية:
تتعلق بالاستراتيجيات المتبعة في إدارة الأزمة. ففي بداية الحرب، التي أطلقت عليها روسيا “عملية عسكرية خاصة”، ركزت روسيا على ضرب العاصمة الأوكرانية، ما فُسّر وقتها بأن خطتها العسكرية الأصلية تهدف إلى احتلال أوكرانيا وإسقاط نظامها الموالي للغرب. لكنّ روسيا سرعان ما غيّرت من خططها، وقررت قصر العمليات العسكرية على الأقاليم الشرقية والجنوبية وحدها، ما فُسّر بأنه انتكاسة عسكرية تعود، من ناحية، إلى صلابة المقاومة الأوكرانية وتكشف، من ناحية أخرى، عن مظاهر خلل يعاني منها الجيش الروسي.
أيّاً كانت حقيقة الأسباب التي فرضت هذا التغيير، فإن الإقدام على تنظيم استفتاء لضم مقاطعات لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا، أكد تصميم روسيا على إخضاع أوكرانيا لإرادتها. أما الولايات المتحدة فقد أعلنت منذ البداية تصميمها على إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا، ومن ثم تبنت خطة من شقين: فرض عقوبات شاملة على روسيا تؤدي إلى انهيار اقتصادها وعجزه عن مواصلة تمويل الحرب، وتقديم كل أشكال الدعم الذي تطلبه أوكرانيا لتمكينها من تحرير المناطق المحتلة كافة، بما فيها القرم.
وبهذا، أصبحت سقوف الأهداف عالية جداً بحيث يصعب تصور انتهاء الأزمة إلا بتغييرات بنيوية في هيكل النظام الدولي نفسه.
الملاحظة الثالثة:
تتعلق بتباين الوسائل المستخدمة فروسيا وأوكرانيا تتقاتلان بالسلاح وجهاً لوجه، لكن روسيا تعتمد في إدارتها للصراع على مواردها الذاتية وحدها، رغم اتهامات وجّهت إلى إيران بمدّها بطائرات مسيّرة تبيّن أن الأخيرة اشترتها قبل اندلاع الحرب، أما أوكرانيا فتعتمد كلياً على موارد الدول الغربية وإمكاناتها.
ويلاحظ هنا أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يكتفوا بفرض عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا، وإنما حرصوا في الوقت نفسه على تقديم دعم غير محدود لأوكرانيا، بما في ذلك الدعم العسكري، لا تقيّده إلا الرغبة في تجنب المواجهة المباشرة، أو التسبب في اندلاع حرب نووية.
ولأن روسيا تمكّنت من الصمود في وجه الحصار الاقتصادي، الذي راحت أضراره تنعكس سلباً على أداء الاقتصاد العالمي كله، خاصة بالنسبة إلى الدول النامية التي تفتقر إلى مصادر كافية من الطاقة، وتعتمد على روسيا وأوكرانيا في استيراد الحبوب، فقد وجدت الدول الغربية نفسها مضطرة إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة أكثر تطوراً باطراد، بما في ذلك الأسلحة الهجومية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد لا يستطيع أحد التكهّن بمداه، وربما يفتح الباب واسعاً أمام اندلاع حرب نووية.
الملاحظة الرابعة تتعلق بأنماط التحالفات التي أفرزتها الأزمة
أتاحت الأزمة الأوكرانية أمام الولايات المتحدة فرصة لإثبات أنها ما تزال القائد الفعلي للنظام الدولي السائد، والقادرة بالتالي على عزل روسيا عن المجتمع الدولي. وقد مكنتها الأزمة بالفعل من إحكام قبضتها على حلف “الناتو”، بعد فترة من التصدعات والخلافات العميقة، بل ومن إغراء دول أوروبية جديدة، منها دول محايدة كفنلندا، لتقديم طلبات بالانضمام إلى الحلف، ما جعل روسيا تبدو وكأن حربها على أوكرانيا أتت بنتائج معاكسة للأهداف التي سعت لتحقيقها، وفي مقدمتها وقف تمدد حلف “الناتو” شرقاً.
بيد أنها، في المقابل، لم تتمكن من عزل روسيا كلياً عن المجتمع الدولي، إذ امتنعت 35 دولة، تمثل ما يقرب من نصف سكان العالم، عن إدانة روسيا، ورفضت دول عديدة، منها دول صديقة للولايات المتحدة كالسعودية، الاستجابة لمطالب أميركية تتعلق بتشديد الحصار على روسيا، بل إن دولاً كالهند لم تتردد في شراء النفط الروسي بأسعار تفضيلية، الأمر الذي ساهم كثيراً في الحد من تأثير العقوبات الشاملة على روسيا.
يضاف إلى ذلك، أن الحالة الاستقطابية التي سعت الولايات المتحدة لتكريسها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا ساعدت على ظهور دعوات جديدة إلى إحياء حركة عدم الانحياز، وهو ما لا تريده مطلقاً. صحيح أن الأزمة أحدثت صدعاً كبيراً في العلاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي والتي قررت تقليص درجة اعتمادها على الطاقة الروسية إلى أدنى حد ممكن، ووصل الأمر إلى أن دولة مثل سويسرا، التي كانت أشد دول العالم حرصاً على حيادها بدأت تتخلى عن هذا الحياد، لكن استمرار الهيمنة الأميركية الحالية على أوروبا قد يكون مؤقتاً ومرهوناً بالطريقة التي ستنتهي بها الأزمة.
فقد أقدمت دول أوروبية عديدة على زيادة ميزانيتها العسكرية، في مقدمتها ألمانيا التي أعلنت عن رصد 100 مليار يورو لتحديث جيشها، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات هائلة على موازين القوى في أوروبا، بل وقد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي نفسه وليس فقط حلف “الناتو”، ومن ثم لن تظهر تأثيراته الحقيقية إلا بعد توقف القتال.
على صعيد آخر، يلاحظ أنه كان بوسع روسيا الاعتماد على دول وازنة أعلنت عدم تقيّدها بالعقوبات الأميركية، كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها، ناهيك بالدول المعادية صراحة للولايات المتحدة، مثل إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا..إلخ. لكن الموقف الأكثر حسماً هنا سيكون للصين التي لن تقبل بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، لأنها تدرك أن هذا سيضعف كثيراً من وضعها في النظام الدولي، وسيجعلها وحيدة في مواجهة الولايات المتحدة التي تنظر إليها باعتبارها منافسها الأول على صدارة النظام الدولي.
الملاحظة الخامسة تتعلق بالسيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة
ولأن المجال لا يتسع لشرح تفصيلي للمسار الذي يمكن أن تتخذه الأزمة الأوكرانية في المرحلة المقبلة، نكتفي هنا بالقول إن هذا المسار ستحدّده ثلاثة سيناريوهات محتملة. الأول: تحول الأزمة إلى حرب استنزاف طويلة المدى تترتب عليها تداعيات تؤدي إما إلى سقوط النظام الحاكم أو إلى إنهاك روسيا واستسلامها في نهاية المطاف، لكننا نستبعد حدوث هذا السيناريو، بالنظر إلى صعوبة سقوط النظام السياسي لدولة كبيرة مثل روسيا في حرب لها مبرراتها القومية، وأيضاً بالنظر إلى العمق الجغرافي الهائل لروسيا وما يحتويه من موارد ضخمة.
الثاني: إقدام الدول الغربية على مد أوكرانيا بأسلحة هجومية نوعية، تمكنها من إحداث اختراقات حاسمة في ميدان القتال، ما قد يدفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية، التكتيكية أو الاستراتيجية، لكننا نستبعد هذا السيناريو بدوره، لأنه لا يتسم بالرشادة ويعني دخول العالم في مرحلة لن تنتهي إلا بتدمير الحضارة الإنسانية.
الثالث: استمرار الصراع لفترة تكفي لإظهار تأثيراته السلبية الخطيرة ليس على الأطراف المنخرطة فيه فحسب، وإنما أيضاً على العالم كله، وبما يكفي لممارسة ضغوط قد تنتهي بتسوية سياسية. وهذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً من وجهة نظري.
أخلص مما تقدم، أنه ما كان للأزمة الأوكرانية أن تندلع أصلاً لولا إصابة النظام الدولي قبلها بحالة من الخلل في توازن القوى تجعل من الصعب على أي دولة أن تهيمن عليه بمفردها، وبالتالي فلم يكن المسار الذي سلكته هذه الأزمة حتى الآن سوى كاشف لهذه الحقيقة وليس منشأ لها.
فالأزمة اندلعت أصلاً بسبب إحساس قوة نووية كبيرة بأن النظام الدولي السائد يفرض عليها تهديداً وجودياً لا تستطيع احتماله، خاصة بعد أن وصلت إلى درجة من الثقة بنفسها تسمح لها باستخدام القوة المسلحة لتحدي هذا النظام، وبعد سنة من اندلاع الحرب في أوكرانيا تبين أن أياً من طرفيها، أي روسيا والغرب، غير قادر على حسمها بالضربة القاضية، وأن استمرارها لسنوات طويلة قد يؤدي إما إلى كارثة نووية أو إلى تغيير نظام دولي لم يعد يعبّر عن موازين القوى الحقيقية القائمة على أرض الواقع، وهذا هو ما سيحدث على الأرجح بعد أن تصمت المدافع: البحث عن نظام دولي جديد يعبّر عن موازين القوة الحالية، سواء من خلال إصلاح الأمم المتحدة أو إقامة أمم متحدة جديدة.