الحرب لا بيت لها

هل كان العصفور يبني عشه لو لم يملك غريزة الثقة بالعالم؟
___________________________________

ينقسم السوريون الآن إلى ثلاثة في الموقف من تدمر :

الأول يقول: البشر أهم من الحجر، ويعتب على “رثاة الآثار” نشاطهم الانفعالي معبراً عنه كتابة أو شفاهة. متناسين، أن الإنسان يقتل ويهجّر، بينما ليس على التمثال (المعري وأبو تمام) سوى أن ينحني قليلاً فيسقط على الأرض، كما تسقط كل الأشياء منتهية القيمة.

والثاني يقول: إن الإرث الحضاري يجب الحفاظ عليه، والآثار هي جزء من هوية التاريخ لبلد من البلدان. ولا نجد سبباً لتدميرها.

أما الثالث فهو جديد على التعليقات، على معركة الخلاف والتفاضل بين البشر والحجر يقول: “لا حضارة في الحرب”. لقد تعدى السوري كل حواجز الممنوعات. سواء كان قاتلاً أو قتيلاً ، مهاجراً أو مقيماً، ببيت أو دون بيت. ذلك لأن المأساة السورية راكمت آلاماً يجرّبها أصحابها لأول مرة. وهذه الآلام المتزايدة هي التي ستجعل أي مستقبل بعد الحرب، عسيراً وشائكاً وصعباً وطويلاً.

بدءاً بالبيت الذي تعرض للهدم، أو النهب، أو الاحتلال… سيحدث الخراب في ذاكرة الألم، بوصفها خزاناً لما يفقده صاحب البيت، أسرة البيت من ألبوم الصور إلى كتب الطفولة، إلى السرير الخشبي، إلى الطنجرة أم النعم اليومية.

أما ما يذهب إليه المنكوبون…فهو” المكان صفر” المكان الذي لا شكل له، لا علاقة معه، لا لذة في أي شيء فيه. ليبرز السؤال: لماذا كان البيت ، قبل فقدانه ، يشكل هذه العلامة الضخمة ، غير المرئية ، على وجود الحياة ، ونمو الأحياء؟

إن المفقودات التي يتلمسها منكوبو الهجرة والإقامة تزداد يوماً وراء يوم. ويدركون المعنى الخفي البسيط لكلمات مثل “سكن”. “مسكن”. “مساكنة”. وكلها من مفردات الأمان. والبيت هو الحلم به، ثم الحلم فيه، وهو الذي يغير وجودك من مكان الإقامة في وطن ، إلى مكان النفي منه…النفي المتفاقم الذي يصبح “نبذاً ” كاملاً….

” إن ملمس الدرباس يظل باقياً في يدنا “.

مدينة ومدنية تدمر… مليئة بأرواح أقامت فيها لحراسة غبار الزمن. وهي لا تزال مصدر انفعال زوارها عندما يمسك بيدهم مؤرخ المدينة ويدلهم على المكان الذي تقاطعت فيه أيدي تجار الحرير، وأقلام نساج الحرير.

تدمر عاشت مأساتها، ونالت عقاب طموحها وجموحها حين زنوبيا أصابها غرور الملكة الجميلة. فعصت روما. ولم تحصّن مدينتها، فاجتاحتها الجيوش، واقتادتها إلى شوارع روما لكي يتفرج عليها المنتصرون وهم لا يعرفون من تكون؟

المنتصرون؟ ليسوا على حق أبداً…

وليس هناك مزايا جمالية للنصر. مهما تعددت ألوان الرايات.

ولكن المهزومين ليسوا أيقونات الحزن الحربي . وليس لديهم حسنة واحدة سوى… انتهاء الحرب على أيديهم.

لكن هذه الكلمات الحمقاء ما شفعت لتدمر سابقاً (حيث السجن الرهيب إلى جانب الحائط التاريخي المهيب).

ولن تشفع لها على يد داعش...حيث كل تمثال صنم، وكل مدينة هي جاهلية، قبل الإسلام.

تدمر بين نيران لا شفاء منها .

تدمر هي آخر انذار لمن تبقى من أخواتها السوريات .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى