كتاب الموقعنوافذ

الخسارة…مهنة

الخسارة…مهنة…أمـس التقيت بالصدفة ، بابن العم ( رياض الترك) . وكان يمشي كمتعكز نبيل على عصا الماضي…ما يعني أنه يجب أن يبقى قوي الذهن برغم خذلان الجسد.
كلمة ابن العم، عند رياض الترك ، كلمة مودة عميقـة تطرح منذ اللحظـة الأولى… اقتراح أن تكون رفاقيتنا، وصداقتنا، مختلطة بهذا النوع من القرابة الدموية: نحن بلد صغير. وأناس طيبون. وأقرباء !
في سـورية…ابن العم ( رياض الترك)  نعتبره شـيخ المناضلين، وفي الوقت نفسه تعتبره مظلوماً (لاشيخ المظلومين طبعاً) لأن الذين قدّروه ذات يوم، لم يعطوه بعض حقه ، والذين اختلفوا معه… أخذوا كل حقه!
وعندما خرج رياض الترك، بعد 17 سنة سجن منفرد، راهن الجميع على نهاية حقبة الصداقة والسياسة. ونجحوا في رهانهم…فرياض كان قد تقدم في السـن أكثر مما ينبغي، ولكنه ، كشـخص ذي نفوذ معنوي، ظل موجوداً، إنما الحرب التي اشــتعلت بين السـلطة والمعارضة ، تركت وراءهـا الرموز… والشخصيات ، والأحزاب ، والأفكار. وذهبت في اتجاه آخر هو… ” السـلاح يحسم المسألة”.
قال ابن العم… أن هذه المحنة التي نعيشها هي فقط ســورية الطابع ، ككارثة ، ولكنها أصبحت دولية الحل كقضية متفجرة . في الخارج السوري عندما يتفق اللاعبون الكبار… نجد الحل. ولكن أحد الكبار لا يريد ذلك إلا بعد أن تصبح سورية خرابة كبيرة.
وقال “ابن العم” … وصلنا إلى السـلاح ولم تعد السـياسـة إلا ما تقوله البنادق والخنادق. وثمة آراء أخرى، تشر إلى التأثير المعدوم القيمة، لقوى المعارضة في مجرى الأحداث.
لم يكن رياض الترك ، في الثمانينات ، على صواب ، بنظر الكثيرين ، عندما اعتقد أن ما  يحدث في سورية، على يد الأخوان المسلمين، هو انتفاضة قابلة للاستثمار السياسي، لفتح طريق التغيير الديمقراطي! إذ سرعان ما حدث الآتي:
صارت الانتفاضة في عدة مدن سورية، على رأسها حماه، انتفاضة مسلحة. وقد انكشف لاحقاً، أسـرار واضحة مصرّح بها ، عن علاقة صدام حسين بهذه الانتفاضة ، ومعظم السيارات المفخخة ، التي أودت بحياة الآلاف… كانت تأتي من بغداد جاهزة للتفجير!
اعتبر النظام ” أن من ليس معنا فهو ضدنا ” وتصرّف على هذا الأسـاس، فاعتقل الرفاق في ” المكتب السياسي” جناح رياض الترك… وقضى المعتقلون أطول فترة سـجن عقوبة على أصغر أنواع المشـاركة في الانتفاضة، حتى لـو ببيان من خمسة أسطر.وكانت اللجنة الأمنية قد تلقت تعليمات صارمة من الرئيس مفادها:” تدمير البيئة الحاضنة لهؤلاء” فمن استضاف عضواً في هذه الأحزاب، على كأس شاي، كان يسجن لعشر سنوات.
كما صدر القانون الشهير الذي يجرّم أعضاء تنظيم الأخوان المسلمين، وعقوبتها الإعدام. وطبعاً حبس الدائرة الأولى من الأقرباء، ومصادرة الأملاك والبيوت.
كان “ابن العم” واحداً من أهم ضحايا القراءات الخاطئة للحركة في ســورية الثمانينات. وكان شديد الوضوح انتصار السلطة في هذه المعركة. وبعد الانتصار حدث ما هو متوقع: تنمّر واستئساد الأمن والأجهزة، الأمر الذي قطع الطريق على أية نهضة للحركة المعارضة لسنوات طويلة. حتى في الثقافة !
……………………
اليوم نقع، ومنذ البداية، في خطأ التقديرات. حيث تكرر الوصف غير الدقيق للأحداث، وعواملها، وأطرافها، وسيرورتها. وشمل الوصف الخاطئ أهـــم نقطة وهي توقع سرعة إسقاط النظام، لا بل الوعد بذلك ، وتحديد شـهور في البداية، ثم أيام، في الوسط، ثم ساعات في بعض المراحل.
كان واضحاً ، منذ اللحظة الأولى ، أن النظام سيدافع عن نفسـه حتى آخر رجل ، وطلقة ، وحجر. حتى لو تدمّرت البلد كلها . تذكروا شـعار” الأسـد أو ندمّر البلد”!
فما الذي فعله “ابن العم” وكل “أبناء العم” إزاء هذه الحقيقة الصلبة ؟ وكيف أنبتت الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات؟ ابن العم من أوائل من طرح الديمقراطية وتداول السلطة … ودفع ثمن هذه الأطروحة. وهو يرى الآن حلمه وجهده وخططه…كلها طعاماً للمدافع: لم تعد
الديمقراطية هدفا … بل بقاء سـورية على الخريطة ، بالمعنى الهندسي للكلمة، وإمكانية عيش السوريين مع بعضهم.
يبدو أن هناك مهنة جديدة هي:” مهنة الخسائر”!

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى