الدولة العثمانية.. نظام الملل إلى الطائفية المتفجرة

اتخذت المسألة الطائفية أشكالا عدة في العهد العثماني (1516- 1918). وهي بحاجة إلى مجلدات عدة لمعالجة تجلياتها في سلطنة مترامية الأطراف في أوروبا وآسيا وأفريقيا. فكان لا بد من تحديد حقل هذه الدراسة في الزمان والمكان. فهي تعالج المسألة الطائفية تحديدا في بلاد الشام منذ لحظة انفجارها في القرن التاسع عشر وحتى انهيار السلطنة نهاية الحرب العالمية الأولى. وتقدم مقاربة تاريخية بصورة خاصة، وتحلل الأسباب الكامنة وراء تحول نظام الملل العثماني أو الطائفية المستقرة إلى طائفية متفجرة، تحولت اليوم إلى عصبيات مذهبية مدمرة تهدد مستقبل شعوب الشرق الأوسط المعاصر.

دانت الدول الاستعمارية الأوروبية سياسة قمع العصبيات القومية، والعرقية، والطائفية، والقبلية، وسارعت إلى دعمها وتشجيعها على الانفصال عن السلطنة. ودلت الوثائق التاريخية على أن ذلك الدعم يندرج ضمن مشروع إمبريالي أوروبي، لتفكيك السلطنة من الداخل واقتسام ولاياتها بين الدول الاستعمارية الكبرى. وكشفت اتفاقيات سايكس – بيكو.

ظاهرة دينية

لقد تحولت الطائفية من ظاهرة دينية إلى ظاهرة سياسية تعود بجذورها شكليا إلى “نظام الملل” العثماني. وتزامن استخدامها السياسي الكثيف مع دخول السلطنة مرحلة الانحدار والتفكك. وساعدت بريطانيا وفرنسا على إقامة دول عربية حديثة على خلفية عصبيات طائفية في بلاد الشام، وقبلية وأسرية في الأردن والجزيرة العربية؛ لأن تلك العصبيات كانت تشكل الركيزة الصلبة للتجمعات السكانية في بلاد الشام والجزيرة العربية. فسهلت تدخل القوى الإمبريالية في غياب الدولة المركزية الجامعة في مرحلة ضعف السلطنة العثمانية، وعجزها عن الانتقال بالسكان من مرتبة رعايا الطوائف والقبائل إلى مرتبة المواطنة.

بيد أن تلك الشعوب وطوائفها التي تفاءلت كثيرا بمقولات التحديث الغربية، أصيبت لاحقا بخيبات أمل كبيرة؛ لأن أيا من الدولتين لم تنفذ وعودها تجاه شعوب هذه المنطقة، بعد سيطرتها على بلاد الشام في مرحلة الانتداب التي أعقبت انهيار السلطنة العثمانية. وذلك يطرح تساؤلات منهجية كثيرة: كيف تحولت الطائفية المستقرة في ظل “نظام الملل” العثماني، إلى طائفية متفجرة تحت تأثير التدخلات الخارجية لتفكيك السلطنة؟ ولماذا اختار السلطان عبدالحميد الثاني الرد على مشروع حداثوي غربي بني على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة وثورات العلم والتواصل بمشروع طوباوي عن الوحدة الإسلامية؟ وهل نجحت سياسة البطش، والقتل، والنفي، والمصادرة، والتهجير، والمجازر الدموية، ورفض دعوات القوى الخاضعة للعنصر التركي بإقامة دولة عثمانية عصرية تساوي بين رعاياها في الحقوق والواجبات، من دون أن تفرض عليهم مقولات “الطورانية والتتريك” بالقوة؟. وهل استفادت السلطنة أم الدول الإمبريالية الكبرى من سياسة عبدالحميد الدموية، التي دفعت أعدادا كبيرة من سكان بلاد الشام والجزيرة العربية، إلى طلب الحماية والدعم الخارجي، على أمل بناء دولها القومية والوطنية؟

تفجير الطائفية في الشام

يشير بعض المؤرخين إلى أن السلطنة العثمانية تأخرت كثيرا في تحديث قطاعات التعليم والثقافة في مركز السلطنة، وفي ولاياتها العربية والبلقانية. ثم قامت بإصلاحات مهمة في مرحلة “التنظيمات” تحت ضغط الدول الأوروبية من جهة، وما قام به محمد علي باشا من تحديث واسع لقطاع التعليم في مصر، وامتد تأثيره الإيجابي إلى بعض قطاعات التعليم والثقافة في بلاد الشام، وبشكل خاص في بيروت وجوارها.

هناك أدلة قاطعة تؤكد أن مسار حركة التحديث العثماني في مجالي التعليم والثقافة، كان له أثر واضح في تفجر المسألة الطائفية وحركات العامة في بلاد الشام. وذلك يطرح تساؤلات عدة حول واقع التعليم والثقافة في بلاد الشام مطلع القرن التاسع عشر، وأثر مقولات التحديث التي تبنتها السلطنة في هذين المجالين إبان تلك الحقبة. فهل ساعدت التنظيمات على تحصين عملية التحديث في بلاد الشام حتى سقوط السلطنة نهاية الحرب العالمية الأولى؟ تعود إشكاليات التحديث السياسي والاقتصادي والثقافي في السلطنة وبلاد الشام، بجذورها القريبة أو المباشرة، إلى مقولات التحديث العلمي التي شهدتها السلطنة وولاياتها في مرحلة التنظيمات.

ثلاث قضايا أساسية

أ– اقتباس مقولات ثقافية جاهزة عن أوروبا، لحل مشكلات التحديث التربوي والثقافي في السلطنة وولاياتها منذ بداياتها الأولى أواخر القرن الثامن عشر، إلى حين تحولها إلى تيار تحديثي واسع في مرحلة التنظيمات والخطوط الهمايونية أواسط القرن التاسع عشر. وبرزت مفاهيم جديدة وضعت قيد التداول في مختلف أنحاء بلاد الشام كالتحديث، والحداثة، والتغريب، والتبعية، والأصالة، والهوية، والتراث، وغيرها. ونبه بعض المصلحين، من الأتراك والعرب، إلى مخاطر الاقتباس السهل للمناهج، والمفاهيم، والمقولات، والمصطلحات الغربية.

د– إبراز الدور السلبي جدا الذي لعبته مقولة: “تحديث الجيش لمصلحة دولة مركزية استبدادية” في مركز السلطنة، ومصر، ومحاولة فرضها بالقوة على التنوع السكاني الطائفي في بلاد الشام.

وكانت القوى السياسية المسيطرة في السلطنة وولاياتها محافظة جدا. فرفضت بشدة الأفكار الليبرالية، والديمقراطية، والمساواة، أو فرض الرقابة الشعبية على الحاكم العثماني عبر مجالس شعبية منتخبة. ورفضت الدساتير المكتوبة، وفصل السلطات، وتطبيق النظم والقوانين بعدالة على جميع الناس، واعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

يمكننا القول: إن الحياة الفكرية عند العثمانيين عجزت عن استشراف نهضة تتناسب ومستوى الفكر الإسلامي التقليدي، أو مستوى الازدهار الذي حققه العثمانيون أنفسهم في المجالات الأخرى على مدى عمر دولتهم الذي امتد ستة قرون”.

أسباب مهمة لتبرير العجز

1- “أن الحياة الفكرية في العالم الإسلامي كانت قد فقدت وميضها قبل مئتي عام على الأقل، على مجيء العثمانيينن الذين تسلموا أمرها على تلك الحال.

2- الطبيعة البنيوية الأيديولوجية العثمانية ودورها في السلطة المركزية والهيمنة على الدولة والتعليم.

3 – انتشار التشيع الصوفي على نطاق واسع.

لعب أعضاء البعثات الطلابية إلى الجامعات الأوروبية، في القرن التاسع عشر، دورا بارزا في إدخال مظاهر التحديث إلى مركز السلطنة وولاياتها. ودخلت الرساميل الأوروبية بكثافة إلى المدن العثمانية إبان تلك المرحلة، من خلال المؤسسات السياسية والإدارية والثقافية التي أقامها محمد علي في مصر وبلاد الشام. وحملت الإصلاحات الجديدة تبدلات مهمة في النظم العسكرية، والمالية، والتربوية، والإدارية، والتجارية. وتضمنت نظم الخدمات في السلطنة وبلاد الشام الكثير من المقولات الثقافية المقتبسة عن نظم التحديث الأوروبية.

برز خلاف حاد على المستوى الثقافي واتخذ أبعادا طائفية واضحة. فتحديث التعليم والثقافة ساعد على نشر مقولات جديدة هزت ركائز النظام السياسي التقليدي؛ إذ دعا المصلحون إلى تبني النظم الدستورية على نطاق واسع، وإلى نشر مبادئ الديمقراطية التي تدعو إلى المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وبدأت مفاهيم الديمقراطية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والعلمانية، والعدالة، تستقطب عددا من كبار المثقفين الأتراك والعرب الذين طالبوا بإدخالها في صلب الدساتير والنظم الجديدة.

ونشروا الكثير من المقولات التي تؤكد أن الديمقراطية، من أبرز ركائز الدولة العصرية، ولا تتعارض مع مقولة “الإسلام دين ودولة”. كما أن العلمانية العقلانية ليست ضد الدين، ولا تبشر بالإلحاد.

بيد أن منجزات حركة التنظيمات شكلت تراثا إيجابيا استفادت منه الجمهورية التركية العلمانية لاحقا، أكثر مما استفادت منه جميع الدول العربية الحديثة النشأة في بلاد الشام. فقد طورت الجمهورية التركية تلك المفاهيم في مجال تحرير المرأة، وعدم التمييز بين المكونات البشرية للمجتمع التركي الحديث، ورفض كل أشكال التقسيم، أو الانفصال، أو الحكم الديني، أو التعصب القومي أو اللغوي. ويرى الباحثون المنصفون أن تجربة التحديث العثمانية التي بدأت في القرن التاسع عشر مهدت الطريق، في ظروف دولية صعبة جدا، لقيام الجمهورية التركية على أسس قومية، وعلمانية، وعصرية في زمن كمال أتاتورك وخلفائه.

خلاصة من بحث مسعود ضاهر ‘المسألة الطائفية في السلطنة العثمانية’، ضمن الكتاب 91 (يوليو 2014) ‘المسيحيون في الشرق’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى