«الراوي العليم» بات من مخلّفات الماضي

إن تأملاً فاحصاً في ظاهرة الراوي في أي مجتمع من المجتمعات، وانعقاد حلقات الحكي الشفهي السردي من حوله، يُظهر أن الراوي في أي مجتمع من المجتمعات، كان شخصية بشرية حقيقية معروفة بصفاتها الجسدية والعقلية. وكان يمثّل خزانة الحكايات ووسيلة نقلها الى الآخر. وحده يعرف ما لا يعرفه جمهور التلقّي، وإذا ما شاركه بعض الجمهور المعرفة، فإنه وحده من يمتلك الموهبة والممارسة، ويقوم المرة تلو الأخرى بكشف مغامرة الحكاية، عبر طرق السرد الممتعة والمشوّقة.

إن مجلس الراوي أو حلقة الحكي/السرد، تجمع الراوي بجمهور الحكاية في مكان وزمان محددين، سواء كان ذلك في منزل أسرة صغيرة، أو في مقهى عام، أو في ساحة مدينة كبيرة. ولذا، فإن انتفاء أو عدم وجود أي من هذه العناصر، يخلخل مجلس السرد وقد يعطّله.

أدى الراوي دوراً مهماً في حياة الشعوب لأجيال وأجيال، ومؤكد أن حضور الراوي في السرد، بخاصة في الكتابات القصصية والروائية الراهنة، هو امتداد لدوره الشفهي. التقط كتّاب الرواية والقصة فكرة الراوي، ووظّفوها في كتاباتهم الإبداعية، في أشكال وصيغ متعددة. وتحوّل الراوي الشفهي ليكون سارداً، وتحول الجمهور الذي كان يحيط به، ليكون جمهور القراءة، وصار اللقاء كتاباً. ويمكن تطبيق شروط الراوي الشفهي على الراوي في النص الروائي. مع التأكيد على حقيقتين مهمتين وهما: السعي البشري المستمر الى التخلص من الخرافة، ومحاولة اكتشاف المزيد من أسرار العلاقة النسبية التي تربط الزمان بالمكان، ما يحقق المزيد من الوصل ونقل المعلومة العلمية والفكرية والخبرة الإنسانية بطريقة أسرع بين شخص وآخر، مهما كان البعد المكاني والزماني بينهما.

إن علم السرد يقوم على خلق أو توليد معنى عبر اللغة بوجود أداة لخلق هذا المعنى، وهذه الأداة كانت في البدء الراوي الشفهي قبل اكتشاف الكتابة، ثم تحوّل ليكون المؤلف، الذي يخلق الرواة بمختلف هيئاتهم في أنواع الكتابة الإبداعية. ولأن الراوي الشفهي كان بحاجة الى زمان ومكان لحظيين ليمارس نشاطه بمخاطبة الجمهور، فأنا أعتقد أن الراوي/ السارد في أي كتاب إبداعي، هو أيضاً بحاجة الى زمان ومكان لحظيين، يحدد حضورهما المؤلف، ليكون وجود الراوي وعلاقته بنص الحكاية قابلين للتفسير العقلي المنطقي والفني، وبما يتناسب ووعي وذائقة إنسان القرن الواحد والعشرين.

إن وجود راوٍ عليم يُلمّ بكل تفاصيل القصة أو الرواية، ويقود القارئ إلى دهاليز – وأسرار وعوالم – النص الإبداعي ومصائر أبطاله، كما في معظم روايات القرن التاسع عشر، ظل على الدوام يثير سؤالاً في داخلي: «من أين تأتي كل هذه المعرفة لهذا الراوي؟»، وإذا كان بديهياً أن المؤلف خالق مبتكر للنص، فهو بالضرورة خالقٌ للراوي. وأعتقد أنه، في ظل التطور التقني والمعلوماتي المتفجر خلال العقد الأخير، فإن المؤلف مسؤولٌ فنياً عن تصوير هيئة الراوي الجسدية والفكرية، وكذلك خلق مكان وزمان يتحرك فيهما أثناء روايته للحكاية على امتداد النص، فالراوي العليم بات جزءاً من مخلفات الماضي.

إن التغيّر والتطوّر اللذين طاولا ويطاولان فكر الإنسان وحياته في شكل متسارع، يفرضان على النقد الحديث مجاراتهما، والنظر نقدياً إلى نبذ صيغة الراوي العليم، الذي تأكد حضوره في سرد القرن التاسع عشر. لكنّ وجوده ما عاد يلائم اللحظة البشرية الراهنة، وبما يتطلب البحث عن هيئات روائية جديدة لتقديم الراوي، تحترم عقلية ومنطق إنسان القرن الحادي والعشرين، وتحقق شروطاً فنية جديدة للرواية الجديدة، تقوم على إدراك بديهية أن المؤلف خالق للنص يبتدع الحكاية وكل ما يتصل بها، وأنه يجب التمييز بين المؤلف والراوي، وأن الراوي شخصية من شخصيات العمل الإبداعي كبقية الشخصيات. ومثلما لأحداث الحكاية فضاء روائي يحوي أمكنتها وأزمنتها، فإن للراوي/ السارد فضاءً آخر يحوي زمانه ومكانه، سواء حضر بصيغة مفردة أو رواة يتناوبون على رواية أحداث الحكاية. وهذا يعني أن الرواية الجديدة تقدم مستويين من السرد: الأول، سرد الراوي لأحداث الحكاية، والثاني سرد/ تبرير الراوي لطبيعة وجوده داخل النص.

إن نقل وقائع أي قصة أو حكاية من الواقع إلى عالم السرد، يحتاج الى أداة وهي المؤلف، وهذا المؤلف بدوره يحتاج الى أداة تنقل ما يودّ توصيله إلى القارئ. وهذا هو الراوي، مع ضرورة التفريق بين الزمان والمكان الفعليين لوقائع أي قصة، وبين الزمان والمكان اللذين سيقدمهما السرد حين ينتقل بهذه القصة من كونها حدثاً واقعياً لتكون حدثاً فنياً، فلا بدَّ من الإشارة إلى مكان الراوي وزمانه في النص الإبداعي، نسبةً إلى مكان الحكاية وزمانها. إن إطلاق صفة «تقليدي» و «كلاسيكي»، يقول في شكل صريح أن «الراوي العليم» صار صيغةً من صيغ السرد القديمة التي يجب تجاوزها والتخلص منها، وذلك عبر أشكال جديدة من السرد. وأكاد أكون متأكداً من أن واقعنا الروائي العربي الراهن، وكذا المستقبل، يحملان الكثير من الكتابة الإبداعية المغايرة واللافتة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى