فن و ثقافة

الرواية في مواجهة سلطة القارئ

إبراهيم فرغلي

الرواية في مواجهة سلطة القارئ…. قبل مدة وجيزة وفي إحدى القاعات الأكاديمية في مدينة نيويورك، سدّد شاب، من حضور محاضرة أدبية، عشر طعنات في الوجه والصدر للكاتب البريطاني سلمان رشدي، استناداً إلى تأويل قارئ ـــ ليس هو الذي قام بالطعن ـــ رأى في رواية «آيات شيطانية» إساءةً للإسلام.

وقبل عقدين تقريباً، في أحد شوارع القاهرة كان هناك ثمة شاب آخر سدّد طعنةً واحدةً أصابت رقبة نجيب محفوظ، مدفوعاً بتأويل «قارئ» ما، آخر، رأى في أعمال محفوظ تهمةً مشابهةً.

هاتان الحادثتان المأساويتان تكشفان العواقب الوخيمة لتحوّل القراءة من عملية تلقٍّ وفهم وحوار مع الأفكار، إلى نوع من «سلطة مطلقة» بيد القارئ، يستخدمها للحكم على الكاتب وأفكاره، فقط لأنها لا تتوافق مع هواه أو معتقداته.

لا تتمثل العواقب هنا في الإصابة البليغة التي هددت رشدي بفقدان بصره أو حياته، ولا حياة محفوظ والمتاعب الصحية التي لاحقته لمدة وأثّرت في قدرته على الكتابة، بل تمتد إلى خلق حالة من التهديد غير المباشر للكُتّاب، ما دفع بعضهم ربما إلى إجراء نوع من الرقابة الذاتية على كتاباته تجنباً للتعرض لمصير مشابه. كما تمتدّ إلى وجود أفراد يدخلون مجال الكتابة وهم ينتمون، ولو من قبيل التعاطف؛ مع التأويلات الدموية التي تحضّ على قتل الكتّاب لمجرد الاختلاف معهم.

هؤلاء الأفراد تسبّبوا في اختلاق تيارات من الكتابة المحافظة، التي أطلق عليها البعض «الكتابة النظيفة»، أي تلك التي تخلو من كل ما قد يتعارض مع قناعات أخلاقية لجمهور يكوّن «كتلة عمياء» من قرّاء معدومي الفردية، بما يتضمنه ذلك من قدرة على فعل القراءة الحقيقي، المكفول كحقّ من حقوق الإنسان المعاصر، بل حتى بين حقوق المتديّن الذي يعرف أنّ أولى الكلمات التي بدأ بها الوحي الإلهي هي كلمة «اقرأ»، لكنه يفضّل التوقف عند جملة «ما أنا بقارئ»، التي صارت نبراساً ودليلاً، بدلاً من الدعوة المقدسة إلى كلمة «اقرأ» بكل حمولاتها الدلالية التي تعني التدبّر والتفكّر وإعمال العقل.

هذه الحالة الغريبة كلّها خلقت عوالم موازية أخرى لألوان من الكتابة الأدبية المباشرة السهلة التي تدغدغ مشاعر القارئ البسيط، ويبدو معها الكاتب كأنه يتملّق القارئ ويقدم كتابته إليه باعتبارها مادةً للتسلية وتزجيةً للوقت. حكايات تقليدية في خطوط زمنية أفقية، أو استعادة لبعض الأجواء الرومانسية في روايات تعود إلى التاريخ من دون أي أفكار جديدة، أو إعادة إنتاج روايات كلاسيكية منزوعة الفكر.

خطورة هذا النوع من الكتابات إغفالها جوهر الرواية كوسيلة سردية لإنتاج الفكر والمعرفة بكل ألوانها. والتماهي مع مفاهيم مغلوطة تتوهم في السرد مجرد عملية «حكي» مشوّق لأنماط من البشر في مسالكها في الحياة.

المعرفة بمعناها العميق الذي جعل من متون دوستويفسكي بين أبرز أدوات دراسات فرويد في علم النفس، ونجيب محفوظ في إعادة إنتاج تاريخ مصر المعاصر وتأمّله من واقع انعكاساته على الأفراد، وساراماغو في خلخلة المعاني المألوفة في العالم من أجل محاولة فهمها بشكل أكثر عمقاً، وتولستوي في فهم التاريخ بشكل مجرد من منظور مؤرخ غير أيديولوجي، وسارتر في فهم مضامين الوجودية ومعنى الفردية في عالم ما بعد الحروب العالمية، وهرمان هسه في إعادة فهم العالم من منظور روحي أو منظور فلسفي، وغيرها العشرات من نماذج المعارف التي تقدمها روايات عُرف كتّابها بالعمق وبوعيهم بالرواية كمتن سردي معرفي وفكري في المقام الأول.

يخشى الكاتب المتملّق قارئه المتسلّط، فيمتنع عن تجريب أساليب سردية جديدة، وعن تركيب أفكاره، وتغيير إيقاع السرد حتى لا يصاب القارئ بالملل، وعن استخدام ضمائر سرد غير تقليدية حتى لا يشتّت قارئه العزيز.

يبدو لي الأمر أحياناً كأنّ الحياة البشرية بدأت دورة جديدة فعلاً قوامها كُتّاب جدد لم يسبقهم تاريخ من السرد عمره الآن نحو أربعة قرون. أو كأن قراءة الأدب اختراع جديد لم يظهر في العالم إلا في السنوات العشر الأخيرة، كأنّ لا هؤلاء الكتّاب ولا أولئك القرّاء عرفوا شيئاً عن «موبي ديك» هرمان ملفل، أو أعمال فيرجينيا وولف، أو توماس مان، أو بورخس، أو كافكا، أو بول أوستر، أو ميلان كونديرا، أو مايكل أونداتجي، أو محفوظ، أو إميل حبيبي، أو الغيطاني، أو أيّ من رموز التجريب والإضافة غير التقليدية للسرد المعاصر، ومن بينها تجارب عربية كثيرة بطبيعة الحال.

تتعالى صيحات عجيبة بين آن وآخر تقول مثلاً «المجد للحكاية»، أو «الكتابة أصلها الحكاية». كأن الحكايات انعدمت يوماً في أي عمل أدبي؛ سواء مما أشرت إليه من الكتابة المكتوبة لتملّق القارئ، أو حتى أي نموذج من كتابات الكتاب التجريبين الكبار.

من البديهي أن الحكاية، بطبيعة الحال، أصل السرد وجوهره، لكن السؤال هو كيف نحكيها؟ وليس أسلوب الحكي أبداً هو الإجابة عن السؤال كما قد يتصوّر بعضهم، بل تقنيات السرد التي تأتي الحكاية جزءاً من نسيجها. فقد كان ذلك هو الشرط الذي انتقلت به الحكاية الشفاهية بشكلها القديم إلى السرد الحديث بوصفه فكرةً سرديةً تكتسي عظامها بهيئة مخلوقات فنية أدبية، تقوم بتمثيل الفكرة أو تحويلها من الحالة المجردة إلى فكرة فنية مجسّدة في مصائر أبطال النص ومساراته.

هذا التبسيط المخلّ للمفاهيم بداية من دور القارئ البديهي، كمتلقٍّ فاعل في تأويل النص، وليس صاحب سلطة فوقية، أو من طبيعة السرد بتبسيطه لمجرد «حدوتة»، أو تاريخ السرد الذي يتم التعامي عنه، بينما تطور عبر مراحل عدة انعكاساً لتغيرات اجتماعية وسياسية وقيمية عدة واكبها بتغيرات مثيلة، بل حاول أن يتقدم عليها بمحاولات التنبؤ بالمستقبل.

هذا التبسيط أدى إلى تحوّل سلطة القارئ من وسائل حادة مثل سكين القتلة أو محارق محاكم التفتيش أو فتاوى ممثلي السلطة الإلهية، إلى وسائل أخرى صنعتها الرأسمالية الجديدة مثل تطبيقات «غود ريدز»، التي منحت القارئ سلطة تقييم قوامها عدد من «النجمات»… قوامها ذوق القارئ أياً كانت مرجعيته وتكوينه الثقافي والنفسي، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو جماعات قراءة افتراضية، يمكن أن تستخدم في تكوين «ألتراس» يفخّم ويمجّد نوعاً من الكتابات أو كتّاباً بعينهم بشكل متفق عليه.

كما يمكن استخدام هذه الأسلحة في الإيحاء بسوء كتابات أخرى لأسباب لا علاقة لها بالقراءة أو الفن، ولا تخرج عن منطق الوصاية التي تظلّل «سلطة القارئ» المستحدثة.

وهنا يأتي دور الرواية الحقيقي، مرة أخرى، أن ينبهنا لخطورة رأس المال الذي يحارب القيمة دائماً لمصلحة المكاسب والمنافع. دور الرواية الحقيقي هو كشف «الكليشيهات السردية» المكررة من جهة، وفضح دور الرأسمالية في تخريب الأدب والسرد. قد يطول الوقت الذي يقتضيه عمل مماثل أو يقصر، لكنه سرّ استمرار فن الرواية منذ أربعة قرون وإلى اليوم.

* كاتب وروائي مصري

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى