الرواية والإحتشاد الثقافي
الرواية والإحتشاد الثقافي …الثورة على الأشكال المستهلكة والبحث عن الصياغات الحديثة لتأطير الثيمات التي تقوم عليها الرواية مطلب أساسي في بناء المنجز الإبداعي، كما أنَّ تحديد المساحة هو ما يؤثث للسمة الفارقة في شكل العمل والمبنى الحكائي، ومن المعلوم أنَّ هوية النص الأدبي ما هي سوى حصيلة ما يتبعهُ المؤلفُ على المستوى الشكلي من ترتيب المادة المسرودة والآلية التي يتمُ من خلالها تمثيل خطاب الرواية، وبهذا يتكونُ العالمُ الذي تتحركُ في فضائه المحتويات والكائنات السردية.
طبعاً هذا ليس كل ما تنهض عليه الرواية، ولا يمكن معرفة خصوصيات هذا الجنس الأدبي بمجرد النظر إلى التصميم الخارجي. صحيح أن المستوى البنائي يعكسُ جانباً كبيراً من ثقافة المبدع وإدراكه الجمالي، غير أنَّ الأهم في الرواية هو تواصلها مع الأشكال التعبيرية الأخرى، وإحتوائها للمعطيات الثقافية المتعددة، هذا ناهيك عن ضرورة تفاعلها مع الأنساق الموسيقية وتوظيفُ ما يفعلُ التمثيل البصري في المشاهد السردية، ما يعني أنَّ الوعي بمتطلبات كتابة الرواية لا ينحصرُ في بعد واحد. كما أنَّ الإسترسال في السرد لم يعدْ عاملاً مقنعاً لمتابعة المضامين، ولا يشدُ الإشتغال على القضايا الكبرى ضمن العمل الروائي المتلقي، إذا لم تكنْ هناك مسوغات فنية.
يقولُ سعيد ناشيد بهذا الصدد لا تكمنُ القدرة الإستشرافية للفنان العبقري في أن يكشفَ لنا عن الأشياء البعيدة عن مداركنا، بل تظهر إمكانياته في الكشف عن الأشياء القريبة من مداركنا، وعلى الرغم من قربها تفوتنا رؤيتها.
إرهاص حضاري
ما برحَ النقاشُ قائماً حول انشداد القاريء العربي إلى الروايات المترجمة، بينما تتوالى إصدار الروايات العربية. واللافت أنَّ الجوائز الأدبية المرصودة يكادُ بريقها يختفي وما عادت عنصر الجذب لدى المتابع.
والحال هذه لا بدَّ من التحري عن الأسباب التي زادت من حظوة الروايات المترجمة بقطع النظر عن جنسية أصحابها، بداية يجبُ الإقرار بأنَّ فن الرواية قد نشأ في الغرب وواكب التطورات الحضارية على الأصعدة السياسية والثقافية والإجتماعية، ويعتقدُ كولن ولسن أن الرواية هي أعظم ما قدمه الغرب، وأن ظهورها كان إرهاصاً بالإنطلاقة الحضارية والإنعتاق من الإنسدادات المتراكمة، فبنظر كولن ولسون أنَّ ثورة الخيال المتمثلة في فن الرواية، قد سبقت قيام الثورات على أرض الواقع. وعندما نتحدث عن الرواية الغربية لا بدَّ أن نأخذ هذه الحقيقة بنظر الإعتبار لأنَّ هذا الجنس الأدبي لم يعد أحادي المدخل بالنسبة إليهم، بل يشتغلُ المبدع الغربي على مداخل متعددة، وبذلك يؤسس لما يمكن تسميته بديموقراطية المعرفة، حتى لو استعاد حدثاً تاريخياً لا يغيبُ في مسعاه الإبداعي.
الإهتمام بالبعد المعرفي والتفاعل مع المعطيات الفنية والعلمية ومناقشة الأسئلة الوجودية المضمرة في الصياغة الروائية، هذا إضافة إلى أنَّ تحرر الكاتب الغربي من الرقابة الذاتية يطلقُ يده أكثر للتصرف مع الظواهر المجتمعية وإثارة الأسئلة بشأن المسلمات والرموز والإستبطان في اللاوعي الجمعي. والهدف من وراء كل ذلك هو الإنفكاك من الوعي الضيق ونقض اليقين، كأنَّ الكتابة تبدأ بإيحاء هذا المبدأ “أعظم الناس يقيناً أكثرهم جهلاً”.
أزيد مما سبق فإنَّ الرواية الغربية لا تستمد عناصر تشويقها من القصة أو الصياغة، فحسب، بل بما تتيحه من مجال للمراوغة مع المتلقي الذي سيصبح شريكاً في ردم الثغرات وإنتاج المعنى، وبذلك ينجحُ الكاتب في إيهام القاريء بأنَّ قسماً من مسؤولية إكتمال النص الأدبي يقعُ على عاتقه، وهذا العقد بين الطرفين يستدعي وعياً من المبدع بإستنفار المخزون المعرفي لدى القاريء، وإدارة مكونات العمل الروائي بما يفعلُ الحساسية الموسيقية والبصرية، إضافة إلى إثارة الأسئلة بشأن ما يقع في صميم هواجس الذات.
رهانات
حققت الرواية العربية تطوراً ملحوظاً وغطت التحولات التي يشهدها الواقع المجتمعي فبالتالي أصبح القاريء أكثر وعياً بالعاهات السياسية والتحديات الحياتية. كما أنَّ إجتراح الأشكال الروائية والصيغ التعبيرية الجديدة يحظى بالإهتمام في أجندة المبدع العربي، صحيح أنَّ التفاعل مع الفنون الأخرى لا يزال شحيحاً وغير ناضج كما أنَّ صوت المؤلف بخلفيته الآيدولوجية وآرائه المسبقة أكثر علواً في الرواية العربية.
عطفاً على ما سبق فإنَّ ما يشكلُ تحدياً للروائي العربي هو متابعة القاريء للنصوص المترجمة، وما يراه في تضاعيفها من الأشكال والأفكار المتنوعة، بحيثُ لا يمكنُ وصف ما يتمُ تناوله في سياقها إلا بالإحتشاد الثقافي حسب تعبير رضوى عاشور. إذاَ لا يختلفُ النص الروائي في صخبه الكرنفالي وتجاروية الفنون والأفكار في تشيكلته من الجداريات المنبسطة بوجه المارة الذين يمثلون مستويات ثقافية متنوعة، قبل إقفال قوس المقال من المناسب أن نطرح سؤالاً، هل يقرأُ الروائيون والمبدعون العرب أعمال بعضهم بعضاً؟ فرهان الرواية يكونُ في بنيتها المنفتحة على الخطابات المتناقضة، لأنَّ الفنون بأكملها ومن ضمنها الرواية غايتها الإمتاع، ومن ثم توفير المعرفة، وليس الترويج للأفكار الأحادية.
ميدل إيست أونلاين