السر الذي اكتشفناه بعد وفاة جدي!

خرجَ جدّي، الذي كان يعرف بالشيخ محمد العسالي، من البيت قُبيل صلاة الصبح بساعة واحدة تقريبا، كان ينامُ باكرا بعد أن يصلي العشاء، ثم يستيقظ في الوقت المحدد ليحدثَ جلبة حوله، وبخاصة عندما يشرعُ في الوضوء من ماء البحرة التي تتوسط أرضَ الديار!

المرحلة الحساسة في وضوئه، كانت تثير انتباه كلّ من استيقظ على تلك الجلبة، فعندما ينتهي من غسل الذراعين إلى المرفقين، كما هي سُنّة الوضوء، وقبل أن يغسلَ قدميه، يقوم جدي بإغراق رأسه كاملا في ماء البحرة النظيف المتدفق، ثم يخرجه بعد نحو نصف دقيقة وهو يتنفس في شهيق عميق مفزع ليشبع حاجته إلى الهواء!

كان يمكن مراقبته، وهو يُعشّقُ أزرار قمبازه الناصع مع عُراها، ويربط شاله الأصفرعلى خصره، ويرتدي جبته السوداء، ثم وهو يضع لفّته البيضاء النظيفة المرتبة بطيات متتالية مدروسة فوق رأسه، وبعدها يخرج من البيت، مع كيس الخام الأبيض، لصلاة الصبح، لنتابع نحن نومنا، بعد اختفاء الجلبة، وكنا ثلاث أسر تقطن معا في جنبات البيت الواسعة في حي الجسر الأبيض القديم !

لم يخطر في بال أحد ممن يسكنون في البيت، أن الفرق بين ذهاب جدّنا إلى صلاة الصبح وعودته منها كان يمكن أن يحسب بالساعات، فغالبا ما كان يعود في الساعة الثامنة صباحا، وربما ظن الجميع أنه يذهب إلى جامع دار الحديث الأشرفية في سوق العصرونية بدمشق ويبقى فيه كل هذا الوقت ثم يعود سيرا على الأقدام، وهذا ماكان يفعله منذ أن كنا نسكن في حي العمارة أيام زمان.

هذه العادة اليومية ، لم يتركها جدي منذ خمسين سنة، فدار الحديث الأشرفية كانت مقصده منذ أيام الشيخ بدر الدين الحسني وهو من علماء دمشق المعروفين بعلمهم وتُقاهم وسمعتهم الطيبة، وظل جدي يرتادها حتى بعد وفاة هذا الشيخ ليلتقي هناك مع تلميذه الشيخ محمود بعيون الرنكوسي الذي جاء به أبوه فتى إلى الشام، وطلب من الشيخ بدر الدين أن يضعه في عهدته تلميذا وخادما، ويقال إن الشيخ بدر الدين وكان صاحب كرامات، رد قائلا: تريد أن تُعرّفني على (محمود ) وأنا كنت أربيه وهو في صلب جدّه!!

كان جدي يعود في الصباح، وهو يحمل الخبز في كيس أبيض، ويقدمه لنا، فيكفي أسر البيت جميعها ويزيد عن حاجتها، وكانت بعض النسوة من الجيران يأخذن هذا الفائض حتى لو كان يابسا، وأذكر أن واحدة منهن قالت : إن قطعة خبز من الشيخ محمد هي بركة لكل بيت!

مضت سنوات على هذه الحال، وجدي الشيخ الذي قارب عمره المائة سنة، ظل ذا همة عالية، نحيلا قوي البنية، طويل القامة، برزت عروق جسده من ساعديه ويديه وقدميه لتوحي أنه نزق عصبي، ولكنه كان هادئا عطوفا رحيما..

نتأت وجنتاه، وتوقدت عيناه بنظرات حادة غطاهما النور ليرسم مع لحيته البيضاء وجها يحمل معاني الحزم والورع في آن واحد !

فاجأنا مرضُه، حيث لم يعد يتمكن من الذهاب إلى صلاة الفجر، ثم سريعا تدهورت حاله، فعجز عن أداء صلاته بالشكل الاعتيادي، فصار يصلي جالسا ثم مستلقيا على قفاه، ثم اشتعل ظهره بحريق الاستلقاء المرضي، فكُشط الجلدُ منه واهترأ اللحم، وعلا صراخه اليومي إلى أن توفي ذات يوم من خريف عام 1967، وهو يردد بصوت واثق عال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ورأيته يشد بألم على طرف السرير أثناء احتضاره فيما انتصبت سبابته بعد وفاته دليل إصراره على الشهادة التي كان يرددها..

كنت أنا وابن عمي بلال شاهدين على ذلك، وكنت أنا أولَ الراكضين لإخبار أبي في الجهة المقابلة من بيتنا العربي مرددا بخوف: يابابا.. يابابا مات جدي!

كانت وفاة جدي طبيعية، فمثل هذا الجسد القوي المعمّر ينكسرُ فجأة وتتدهور حاله، ثم يعجز عن القيام بخدمة نفسه ثم يموت، وبطبيعة الحال كان الجميع يصفون هذه المرحلة بأنها أرذل العمر، فالرجل يعود طفلا يحتاج لرعاية تشبه رعاية الأطفال .

دُفن جدي في مقبرة باب الصغير، بناء على وصية له أن يكون قبرُه على مقربة من قبر أستاذه ومعلمه الشيخ بدر الدين الحسني قدس الله سره كما كان يقول . وما إن عم الخبر حتى تدفقت مجموعات كثيرة من الشام تعزي به. جاء رجال دين وتجار ورجال ونساء، وحتى أطفال وفتيان، والتعزية نوع من الأعراف الاجتماعية في بلادنا، لكنها في حالة جدي كشفت عن أشياء لم نكن نعرفها في حياته، وكان فيها سر لم نكشفه إلا فيما بعد ..

فقد جاءت للمشاركة في العزاء مجموعات من النسوة لم يترددن على بيتنا من قبل، وبكين بحرقة تزيد عن حرقة دموع بناته، أي عمّاتي. ما أثار اهتمام أسرتنا، وجعلنا نسأل النسوة الباكيات من أين يعرفن الشيخ محمد، ولم يكن ثمة صعوبة في معرفة السر: نعم ، فقد كان جدي يؤدي الصلاة كل فجر، ويقوم بمهمته السرية اليومية، وهي شراء كميات وافرة من الخبز، ثم توزيعها تباعا على بيوت المحتاجين في كيسه الأبيض النظيف الذي يحمله على ظهره، فيصل الخبز إلى الفقراء والأرامل في الأحياء الشعبية، وكان الخبز هو هاجسه الأول إضافة إلى شيء من النقود لم نكن نعرف من أين يأتي به ..

سألنا النسوة : منذ متى كان يفعل ذلك؟!

فأجابت واحدة منهن: لم نكن ننقطع عن بركاته أبدا، فهو يقدم لنا العون منذ زمن طويل .. طويل!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى