السنباطي.. لوعة موسيقى الموظفين (مهاب نصر)


مهاب نصر*


ربما لا توجد مرحلة أشد ثراء وقلقا في الموسيقى المصرية مثل تلك التي أعقبت رحيل سيد درويش. فلأول مرة تكتشف مجموعة من القيم التي كان يمكن أن تدفع بالفن (الفن عموما) إلى أفق يختلف عن المتعة الحسية المحرمة في مجتمع محافظ بالأساس، ينظر إلى (الطرب) بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات جسدية حسية في الأصل، على أنه الهامش المحرم والمرغوب فيه.
الحياة الليلة للرجولة المخنثة، التي تمثل الوجه الآخر للرجولة النهارية الصارمة ذات الشوارب الكثة.
صنع سيد درويش من مقامي الحجاز والعجم طفرة واسعة، ليقدم جملة موسيقية عريضة بإمكانها أن تستوعب الصوت الجماعي كما الفردي دون انكسار أسيف أو لوعة تمزق الأوصال. وجاءت كلمات أغانيه، التي سخر منها عبد الوهاب في ما بعد، لتجعل من الغناء صحبة، ورفيقا للعمل الجماعي، للصناع والحمالين والموظفين ومشايخ الأزهر، وحتى الغارسونات اليونانيين .. الخ. غناء شعبي بمعنى يختلف تماما عما تم تأسيسه وتحجيمه في ما بعد؛ شعبي ليس لأنه يستعيد ويكرس أنماطا غنائية نابعة من الثقافات المغلقة للطوائف، بل لأنه فتح أفق التعبير أمام تلك الطوائف لتصبح تنويعة داخل مجتمع واسع يغلي بالتغيير، ذلك المجتمع الي مثلته ثورة 1919.
نهايات العشرينيات ومطالع الثلاثينيات شهدت هبوطا وانتكاسا حادا، تمثله أقوى تمثيل أعمال نجيب محفوظ الواقعية الأولى: تحلل وفساد وتقاليد تتآكل دون أفق منظور.
أفرغت الثورة من مضمونها بحالة شبه تصالحية، وصعدت برجوازية مدينية أغلبها من الإقطاعيين، وطبقة متوسطة عريضة من موظفي الحكومة، وقليل من رجال الأعمال والباشوات المتفرنجين.
فقدت الموسيقى بسرعة قاعدتها الواسعة، ووجدت نفسها أمام مجتمع مرتب وتراتبي أيضا بحزم. مجتمع أنماط و«كراكترز»،
جاء عبد الوهاب يغني بصوت أقرب إلى الأنوثة في بداياته، ثم يغني للفلاح «محلاها عيشة الفلاح» وهو يرتدي «الفراك»، أو تصوره السينما كما في فيلم «رصاصة في القلب»، الموظف المتسكع ابن العائلة الميسورة غير المعني سوى بمتعته الشخصية «ياللي دموعك لحبايبك/ قوللي ابتسامتك تبقى لمين؟/ أوعى الغرام يشغل قلبك/ ده لسة في في العمر سنين».
ألحان أنيقة لا تغرق في التعبيرية، ولكنها معنية بالبريق والدقة مثل كسرة البنطال الصوف.
ذهب القصبجي في اتجاه التحديث الغربي إلى أبعد مدى، لكنه فشل عند مرحلة ما في أن يقنع جمهوراً عريضاً بالقالب الروحاني الخالص للموسيقى، وفشل من ثم فيلم «الأمل» الى كتب موسيقى أغانيه لأم كلثوم. كان صوت أسمهان الغامض، أو صوت ليلى مراد ببريقه الساحر هما الأكثر تمثيلا له، وليس أم كلثوم.
أما عبد الوهاب فكان البراغماتي الأشد وعياً بالذائقة المصطنعة الجديدة، طبقة اجتماعية بغلالة مدينية وثقافة أصولية ريفية. راوح بين النهاوند والبياتي، بين الإيقاع الغربي الشرقي، ليرضي الرغبة الشكلية في التحديث دون تهور. وكان زكريا أحمد قد اختار طريقه الكلاسيكي الشعبي الخاص لكن مفتقراً إلى القاعدة الأساسية لمعنى كلمة «الشعبي».
ضاع فن الأوبريت الحقيقي إلى الأبد، واستبدل بأوبريتات الأفلام التي بدت كمجموعة من الأغاني الفردية التي تم تركيبها بعضها على بعض.
الإذاعة والاسطوانة والفيلم كرّسا مفهوم الأغنية الفردية، التي ترتكز على التعبير الذاتي (ثلاثية الحب والهجر والدموع).
في هذا المناخ وجد السنباطي نفسه. الكلمات الثائرة لبديع خيري، كان قد حل مكانها الإفراط العاطفي لأحمد رامي (الذي يعد الضلع المكمل في مثلث رأسه أم كلثوم وقاعدته هو، والسنباطي).
والموظفون الذين صورت الأفلام حياتهم البيتية الرصينة، حيث يلتقون ضيوفهم بأرواب تطل من تحتها القمصان المنشاة وربطات العنق، كانوا يخلعون طرابيشهم في حفلات «الست» (كما يفعل أحمد عبد الجواد بطل الثلاثية) ويتركون لرؤوسهم أن تتنفس مع خيالات «النموذج» المستحيل للحب الذي جسده هذا الفريق الغنائي.
«تأدبت» الكلمة؛ أي فقدت خشونتها الشعبية ابنة الشارع والتعبير الصريح، لمصلحة لغة أقرب إلى الفصحى وخيالها الاستعاري القاموسي المثالي.
ستجد هذا المزاج كله لدى السنباطي، الرغبة الخاصة في التوكيد على الشخصية (الطموح الفني الفردي) من خلال المقدمات اللحنية الطويلة نسبيا (والتي بلغت أوجها في الأطلال) اقتداء بعبد الوهاب، والتعلم من الدرس القاسي للقصبجي باستفادة محسوبة من الحس الشرقي لدى زكريا أحمد. قالب كلاسيكي محكم، ورصين، يسمح للمطربة بأن تستعيد ألعاب الطرب القديم لكن في مساحات مخصوصة ومحددة. ومقامات موسيقية صافية بعيدة عن الجموح. قصائد عربية كلاسيكية يحافظ اللحن على إيقاعها وأوزانها الفخمة.
وجد كل من السنباطي وأم كلثوم في الآخر ضالته، فبدا السنباطي الأكثر احتكارا لصوتها، ولم لا؟ فهي أيضا بنت الريف وسليلة الإنشاد الديني الطربي التي تغني في مدينة الموظفين والبهوات، وتطل من علياء صوتها غير المصنف (لا هو أنثوي ولا ذكري) لتمثل وحدة مماثلة لوحدة الدولة الجديدة، دولة الموظفين والكتبة، كما دولة العاطفة الأعلى من مواطنيها، والتي تمثل سقفهم غير المنظور.
أدخل السنباطي عوده كمصاحب أساسي للفرقة الموسيقية، وكرمانة ميزان للكلاسيكية، وعلى خلاف عبد الوهاب والقصبجي وفريد الأطرش لم يستخدم أي آلة غربية إلا في أضيق نطاق كما في أغنية «أراك عصي الدمع» أو «حديث الروح» حيث استخدم البيانو في الأولى والأورغ في الثانية، لكنك لا تكاد تعثر على آلات النفخ كالفلوت والترومبيت والساكس والكلارينيت والأوبوا وغيرها مطلقا.
أخذت الأغنية شكلها النهائي: مذهب وثلاثة كوبليهات على الأكثر، وفواصل موسيقية تمهيدية. القالب كأنه محاكاة (شرقية) للقالب السيمفوني: مقام أساسي، وتنويعات، وتغيير في سرعة اللحن بين كل كوبليه وآخر. وذوق يرضي النظام المحبوك، كأبهاء قصر واسع، يضرب صوت أم كلثوم في جنباته كطائر عريض الجناحين قبل أن يســـقط مذبــــوحاً باللوعة، فيخلع الرجال المحترمون ستراتهم، ويصــرخون: آه يا ست.. تاني يا ست.

*شاعر مصري مهتم بالنقد الموسيقى

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى