السوريون في تركيا.. أي مستقبل لهم؟
ارتفع مستوى قلق السوريين في تركيا، مع ازدياد الانقسام الكبير في المجتمع التركي، خاصةً بعد انهيار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، والصراع السياسي الكبير بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومعارضيه، ما أثار مجموعة من الحوادث ذات الطابع العنصري تجاههم، إضافة إلى انخفاض مستوى معيشتهم، فجعلهم يعيشون قلق الخيارات المستقبلية، وإمكان انسداد الآفاق أمامهم، فأي خيارات أمامهم؟
خضعت العلاقات السورية التركية لتحولات متقلّبة بين الطرفين، نتيجةً للتداخل التاريخي والجغرافي والديمغرافي بين البلدين الجارين، كغيرهما من الدول والمجتمعات التي تم تشكيلها بعد الحرب العالمية الأولى.
على الرغم من المظالم الكبيرة للدولة العثمانية في المرحلة الأولى التي امتدت لقرون، بعد أن استطاع السلطان سليم الأول الانتصار على خصمه المملوكي قانصوه الغوري في معركة مرج دابق عام 1516، فإن أغلب السوريين والعرب لم يكونوا راغبين في الانفصال عن الدولة العثمانية، وأقصى ما كانوا يطمحون إليه هو الإصلاح السياسي، والتعاطي معهم بالمساواة في البرلمان والوظائف الإدارية.
لعبت بريطانيا الدور الأساسي في هزيمة الدولة العثمانية، بقيادتها لثورة الشريف حسين عام 1916، لتدخل معها بقية الدول آنذاك، فرنسا وإيطاليا وروسيا القيصرية واليونان، في محاولات تمزيق ما تبقّى من الإمبراطورية المريضة المهزومة في هضبة الأناضول، لكن مصطفى كمال استطاع الانتصار بمساعدة فلاديمير لينين الذي أمدّه بالسلاح والذهب، ورسم حدود تركيا بالنار، على العكس من السوريين والعرب الذين خضعوا في النهاية للإرادات الدولية، وقبلوا بالحدود المرسومة لبلادهم، بل تحولوا إلى مدافعين عنها كأوطان نهائية لهم، ما ولّدَ في نفوس الترك الكراهية تجاه السوريين والعرب، وتحميلهم مسؤولية سقوط إمبراطوريتهم، فبادلهم العرب الكراهية وتحميلهم مسؤولية المظالم والتخلف على مدى أربعة قرون، إضافة إلى انحيازهم للغرب والانضمام إلى حلف الناتو وعلاقتهم مع “إسرائيل” بعد اعترافهم المبكر بها، بعد أن قبضوا ثمن ذلك بالاستيلاء على لواء إسكندرون عام 1939، الذي يضم المرفأ الطبيعي الأهم في شرق المتوسط، بعد تواطؤ فرنسي كبير معهم.
تغيّرت أحوال العلاقة بين السوريين والترك في المرحلة الثالثة، بعد تسلم حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، خاصةً بعد اتباعه سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار، بالانفتاح على المنطقة عبر البوابة السورية، وترافق ذلك مع نهوض اقتصادي كبير بفعل الاستثمارات الغربية التي وصلت إلى تريليوني دولار، فانقلبت العلاقة بين السوريين والترك نحو حالة الوداد، بعد أن تعمّقت العلاقة بين دمشق وأنقرة إلى مستوى لم تشهده دول المنطقة في ما بينها، وأصبحت تركيا نموذجاً لمستقبل المنطقة والذي تحلم به بقية شعوبها، فحققت حضوراً كبيراً بقوتها الناعمة.
بدأ الانقلاب على شهر العسل في العلاقة بين البلدين في المرحلة الرابعة، إثر انقلاب إردوغان على السياسات الناعمة التي اتّبعها، والتحوّل نحو السياسات الخشنة، في خطوة متسارعة لقطف ثمار الثورات الملوّنة التي ابتدأت من تونس في نهايات عام 2010، وكان الإعداد لمخيمات اللجوء على الحدود مع سوريا قد بدأ قبل وصول الاضطرابات إلى سوريا، ما تسبّب في انقسام داخل المجتمع السوري، بعد أن استطاعت الولايات المتحدة إدخال نموذج حروب الجيل الرابع إليهم، ما أدّى إلى حملة لجوء مبرمجة، وانتقال عدد كبير من السوريين إلى الإقامة في تركيا، وخاصةً الشرائح الصناعية التجارية والخبرات العلمية والفنية والمهنية، التي تمّ استقبالها بترحاب شعبي وسياسي، بناءً على السرديات المسوقة إعلامياً، إضافة إلى ما ترسّخ في الأذهان عن السوريين من مرحلة شهر العسل بين أنقرة ودمشق، والتي لم تستمر طويلاً بفعل الانقسام السياسي والاجتماعي التركي، بعد أن شعر قسم كبير من الأتراك بأن السوريين هم رصيد كبير في سياسات الرئيس إردوغان، وخاصةً بعد وضوح دور المجموعات الإسلامية المسلحة، وعلى رأسها المجموعات السورية، في إنقاذه من محاولة الانقلاب عليه عام 2016، فبدأت الحساسيات السياسية والشعبية تجاههم باعتبارهم استثماراً إردوغانياً ضاغطاً على خصومه السياسيين.
بدأت المرحلة الخامسة مع بدء تهاوي سعر الصرف لليرة التركية، وخاصةً بعد أن نجح إردوغان في تغيير الدستور والتحول إلى النظام الرئاسي عام 2018، ما جعله يمسك بكل مفاصل الدولة التركية، في مجال الجيش والأمن والاقتصاد والقضاء والإعلام، مع تحكّم عائلته وأصهاره والمقرّبين منه الخاصين في أغلبية النشاط الاقتصادي التركي، ما تسبّب في ارتفاع مستوى الديون إلى أكثر من 470 مليار دولار، واختفاء 120 مليار دولار من خزينة المصرف المركزي، إضافة إلى ارتفاع نفقات التوسع العسكري الاحتلالي في شمال سوريا والعراق، وأيضاً النشاط العسكري في ليبيا والقوقاز والبحر الأحمر.
ترك التراجع الاقتصادي الكبير آثاره على ارتفاع مستوى العنصرية تجاه السوريين، ما تسبّب في حوادث عنف تجاههم بشكل أساسي في مناطق متفرقة، ووصلت حدّة مشاعر الكراهية القومية حدّ إحراق ثلاثة شبان سوريين في قرية بالقرب من مدينة إزمير، إضافة إلى مواجهات في الشوارع وتحطيم محال لهم، وقلَّما يمر أسبوع من دون حوادث عنف.
على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها إردوغان للسيطرة على سعر صرف الليرة التركية، فإن مسبّبات التراجع الاقتصادي وانخفاض مستوى معيشة التُرك ما زالت مستمرة، ما تسبّب في انخفاض شعبية الرئيس إردوغان وحزبه إلى 32%، وهو يحتاج إلى استعادة شعبيته بأي ثمن للحفاظ على سلطته المطلقة وحماية أسرته المتورطة في التراجع الاقتصادي الكبير، وهو أمام استحقاق الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2023، ومستعد لبذل كل الجهود والسياسات لاحتفاظه بالسلطة، منعاً من محاكمته على ما تسبّب فيه خلال سنوات حكمه الأخيرة، والفساد العائلي الكبير الذي ترتبط به كبريات الشركات التي تعمل في مجال البناء والعقارات والسياحة والنفط، ما قد يدفعه إلى تزوير الانتخابات، ومن الممكن أن يدفع بأتباعه الإسلاميين والقوميين إلى الشارع للاعتراض الدموي على نتائجها في حال هزيمته، وفي الوقت نفسه فإن خصومه السياسيين من المعارضة التركية الذين ارتفعت نسبة التأييد لهم، لن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال التلاعب بالانتخابات، أو النزول إلى الشارع، لأنهم يدركون أن حرمانهم الحياة السياسية والتهديدات بالاعتقال والسجن ستلاحقهم في حال نجاحه.
ينظر السوريون المقيمون في تركيا بقلق إلى ما يحدث فيها، وقد تجاوز عددهم 3.6 ملايين نسمة، فمصيرهم بالبقاء فيها مرتبط باستمرار الرئيس إردوغان في الإمساك بمفاصل السلطات التركية، على العكس من المعارضة التركية المستفيدة من حدة الصراع الداخلي وارتفاع مستوى العنصرية، من أجل الوصول إلى حل سياسي مع دمشق، وإرجاع أغلبية السوريين إلى بلادهم، ما يجعلهم الطرف الأضعف في تحمّل نتائج الانتخابات.
لا يستطيع السوريون الاستمرار في الحياة الطبيعية في أجواء ارتفاع مستوى العنصرية والعنف تجاههم، وحوادث التعرّض لهم أصبحت شبه يومية، ولا يستطيعون التوجه إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد أن أحكمت إغلاق الأبواب في وجوههم، وهم لا يستطيعون العودة إلى بلدهم على الرغم من اعتبار أغلبيتهم من غير المعارضة المنظمة سياسياً، ولكن بلدهم غير مهيّأ لاستقبال هذا العدد الكبير بفعل الضغوط الاقتصادية الهائلة على ما تبقّى من السوريين فيه، وسعي عدد كبير منهم للبحث عن أماكن للعمل واللجوء، إضافة إلى فقدان أغلبية الخدمات والحاجات الأساسية، وتوقف العجلة الاقتصادية الطبيعية، ما يجعل من خياراتهم في البحث عن مخارج أُخرى لهواجسهم محدودة.
تضيق الآفاق أكثر فأكثر حول السوريين عموماً، ولكن يبقى السوريون في تركيا الأكثر تعرّضاً للتهديدات في المستقبل، بعد تحوّلهم إلى مكسر عصا في الصراع السياسي الحاد في الداخل التركي، وتحوّل قسم منهم إلى ذراع عسكرية لأجندات الرئيس التركي في تحقيق الطموحات الإمبراطورية في استعادة لتاريخ الدولة العثمانية، ما يعقّد إيجاد حل طبيعي لمسألة استمرار بقائهم في تركيا أو عودتهم، وخاصةً أن الصراع الدولي والإقليمي لم يصل إلى نتائج، على شاكلة اتفاقية يالطا بعد الحرب العالمية الثانية.